كلمة فخامة الرئيس امين الجميل
ذكرى 7 آب
* * *
دير مار اليـاس
انطلياس، 7 آب 2002
كم كان حلواً لو كان هذا اللقاء هو للاحتفال بذكرى المصالحة التاريخية التي تمّت في الجبل، يوم الثالث من آب، لا للتنديد بالانقلاب عليها يوم السابع منه.
لقد حرمونا، وحرموا لبنان هذه النعمة،
فحوّلوا الأفراح التي واكبت زيارة البطريرك الماروني الى الجبل الى أحزان،
والآمال المعقودة على الحدث الوطني الكبير الى سأم وقنوط وإحباط مضاعف.
وبدلاً من أن يدعوا المصالحة الرائدة تعمّ لبنان كله،
وعائلاته الروحية كلها، سارعوا الى تطويقها، والانقضاض عليها بشراسة وفظاظة بالغة:
مداهمات ليلية واعتقالات طاولت المئات، ومحاكمات هي للترهيب والإذلال،
ناهيك عن أعمال الركل بالأرجل والشد بالشعر للمحتشدين أمام قصر العدل، طلباً للعدل،
أو على الأقل طلباً لوقف هذا التنكيل بالحرية والإنسان.
غاب يوم الثالث من آب،
وبقي يوم السابع من آب فقط.
لقد اعتدوا أيضاً على الذاكرة، وعملوا فيها تشذيباً وتشطيباً حتى أصبحت مصالحة الجبل أو تكاد مشهداً عابراً
لماذا؟
قيل أنه مشروع انقلاب لا مصالحة.
والرد عليه يكون بانقلاب لا بمصالحة،
انقلاب لا على مستوى السلطة والحكم فقط
بل أيضاً على مستوى السلطة الاشتراعية التي أرغمت على الرجوع عن تشريع صوتت عليه بالإجماع قبل أسبوع بإجماع مماثل.
ولا يزال هذا الحكم يثبت في كل مناسبة أنه والمصالحة الوطنية على تناقض حاد.
يدّعي نشدانها والعمل لها لكنه يخاف منها على نفسه ويرى فيها انقلاباً عليه.
تلك كانت حاله في الثالث من آب الفائت، أي قبل سنة،
وتلك هي حاله اليوم وفي كل آن وحين،
حتى ليبدو كما لو أن لا مبرر لوجوده إلا الفرقة بين اللبنانيين.
* * *
وهو في الحقيقة قام على هذا الأساس.
فمن الفتنة استمد شرعية وجوده،
يوم كانت حاجة اللبنانيين الى الأمن والسلامة الشخصية تتقدم على كل الحاجات الأخرى،
مادية كانت أو معنوية، بما فيها الحاجة الى الحرية.
فكيف بالحاجة الى الانتماء الى وطن حرّ وسيد ومستقل؟
إلاّ أن هذا الحكم،
بدلاً من أن يؤسس لسلام لبناني حقيقي، من خلال مصالحة وطنية حقيقية شاملة،
مضى في الترسيخ لمبرّر وجوده، وهو الحاجة الى الأمن، أو الخوف، خوف اللبنانيين من عودة الفتنة والحرب الأهلية.
وكانت الدولة الأمنية هي البديل من دولة القانون والمؤسسات. وقد مضى على ذلك عقد من السنين ونيف، ولكن من دون أن يكون هناك أمن حقيقي، أو سلم أهلي حقيقي. فالاغتيالات السياسية وغير السياسية تتوالى فصولاً كما في أيام الفتنة،
فيما العلاقة بين الطوائف اللبنانية باقية علاقة حذر متبادل،
وتدافع، طلباً لحقوق مهضومة أو تعدياً على حقوق. فحينما تتعطّل المشاركة الطوائفية في السلطة والقرار – وهي بالتأكيد معطلة منذ سنوات – يقوى التدافع بين هذه الطوائف ويشتد.
وفي مطلق الأحوال، لا غنى عن المصالحة الوطنية التي لم تتم بعد،
والتي هي مصالحة بين الطوائف التي توافقت على العيش معاً تحت سقف واحد،
يعجبنا الأمر أو لا يعجبنا! وهي صاحبة الشأن والصلاحية في إلغاء قاعدة التمثيل الطائفي أو عدم إلغائها.
أما الاحتقان الطائفي فمردّه الى فقدان المشاركة في القرار السياسي،
بل في تقرير المصير على هذا المنعطف من التاريخ.
ولو كانت هناك مصالحة وطنية في القرار وتقرير المصير،
لما كان الاحتقان وهذا السجال من على المنابر الدينية والمذهبية.
ومن الواضح أن الحائل دون هذه وتلك،
هو فقدان السيادة الوطنية، بل فقدان الدولة الحقيقية، السيدة المستقلة،
دولة القانون والمؤسسات.
* * *
الرئيس العماد اميل لحود نفسه قال قبل أيام: "لا نستطيع إكمال الطريق في غياب دولة القانون والمؤسسات".
ولكن، هل من دولة قانون ومؤسسات بلا سيادة:
وتلك هي المسألة!
فهناك خلط بين السلطة السياسية والدولة،
بل هناك انتحال صفة من قبل السلطة السياسية القائمة منذ الانقلاب على وثيقة الوفاق الوطني على أنها هي الدولة والدولة هي.
وهناك أيضاً تجاهل لمعنى الدولة، ولأحد أهم شروط قيامها: وهو شرط السيادة.
فإذا قام من يذكّر به، ويرفع الصوت مطالباً بتحقيقه،
قوبل بالصد، وبالرجم بالكلام الجارح، وبالاتهامات على أنواعها،
وأقلّها التطرف والخروج على المواثيق، والتعصّب الطائفي، والإساءة المتعمّدة الى السلم الأهلي، كما الى العلاقات اللبنانية-السورية.
وثمة من راح يلوّح بإعادة النظر في الموقف من الكيان،
ومن نهائية هذا الوطن، ومن مبدأ المناصفة في المناصب والوظائف العامة.
ولسنا هنا لنرد على هذه الحملة المفتعلة بمثلها،
ولا لندل الى العيوب والأخطاء، والفظائع المرتكبة أحياناً للإبقاء على الأمر الواقع كما هو،
بل لنفتح نافذة على التفاهم، وعلى الخلاص، أو على بعض التغيير الذي لا يموت الذئب معه –كما يقال- ولا يفنى الغنم.
مطلب السيادة، أولاً، ليس موجهاً ضد أحد،
ولا هو للانقلاب على أحد في ظروف ما بعد الحادي عشر من أيلول،
ولا الغرض منه إعادة النظر فيما تم التوافق عليه في ما بيننا،
إنه فقط لتأمين قيام الدولة الحقيقية،
حيث السلطة فيها منبثقة عن إرادة اللبنانيين جميعاً، لا عن أي إرادة أخرى.
* * *
والمسألة في منتهى البساطة متى سلمت النيات،
هي في الاتفاق على قانون للانتخابات يستهدف فقط التعبير عن إرادة اللبنانيين كما هي،
في كل حسناتها وسيئاتها وعيوبها،
من دون أي قوالب جامدة، ومن دون أي تعليب لهذه الإرادة كما هي الحال حتى الآن،
ومن دون أي عبث وتزوير. هذا هو معنى السيادة المطلوبة، أو أحد وجوهها الأساسية.
بكلام آخر، لنفسح في المجال أمام اللبنانيين، ولأول مرة منذ سنوات عدة،
كي يختاروا حكامهم بأنفسهم، فيكون هؤلاء بالفعل، أسياداً، وكراماً
في مسيرة التضامن بين البلدين الشقيقين، لبنان وسوريا، لا العكس.
وفي تقديري أن معظم الخلل في العلاقات اللبنانية-السورية هو من صنع طبقة سياسية لا تعتبر نفسها مسؤولة أمام اللبنانيين، ولا هي، بالتالي، سيدة نفسها.
إنها من إنتاج التطبيق الإستنسابي لوثيقة الوفاق الوطني،
حينما كانت سوريا تطلب من لبنان ما لا يقوى، ذاتياً، عليه،
أو ما لا يستطيع توفيره لها في صورة تلقائية.
فاقتضى الأمر إنتاج طبقة سياسية تحكم لبنان بتكليف سوري لا بتكليف لبناني.
فصدق القول أن لبنان يحكم، في الوقت الحاضر، من دمشق لا من بيروت.
ومكابر كل من لا يعترف بهذه الحقيقة.
هذا بغض النظر عن مقدار الحق والباطل،
أو عن مقدار الخطأ والصواب، في ما طلبته سوريا من لبنان،
وألحّت في الطلب، ونالته بعد إلحاح.
وليس سراً إنها حمّلته في المواجهة مع إسرائيل من جنوبه،
ما لم تتحمّله هي على جبهة الجولان.
إننا لا نفهم، مثلاً، لماذا انتشار الجيش اللبناني على الحدود الجنوبية يخدم أمن إسرائيل،
أما انتشار الجيش السوري على جبهة الجولان فلا!
أو لماذا مقاومة إسرائيل من جنوب لبنان يجب أن تكون مختلفة عنها في الجولان.
وقس على ذلك.
* * *
والمقصود بهذه الملاحظات
هو المشاركة في ما يسمّى القرار الاستراتيجي المتصل بالحرب مع إسرائيل، لا التنصّل من هذه الحرب وموجباتها،
وبخاصة بعد انهيار عملية السلام وعودة النزاع مع الدولة اليهودية الى بداياته تقريباً.
فالسلام الشامل والعادل أضحى سراباً، ولا بدّ، بالتالي،
من إعادة النظر في الاستراتيجيا التي ثبت بطلانها، أو تخلّفها عن الظروف الجديدة.
وهذا، طبعاً، وفي الدرجة الأولى، بالتكافل والتضامن بين البلدين أو الدولتين التوأمين، فما يصيب سوريا يصيب لبنان، والعكس بالعكس.
والمطلوب مشاركة كاملة في قرار الحرب والسلم على هذا الصعيد،
من خلال دولة لبنانية حقيقية عجزت الطبقة السياسية القائمة عن إنشائها،
وستظل عاجزة للأسباب نفسها التي أنتجتها.
ولعلها تحتاج الى إعادة تأهيل على السيادة والقرار الحر والمسؤول.
* * *
والمدخل الى هذا كله هو تمكين اللبنانيين من أن يختاروا حكامهم بأنفسهم.
وهو معنى السيادة التي نرفع شعارها.
فأين التطرّف أو الطائفية في الأمر، أو الانقلاب على سوريا؟
وهل من عيش مشترك من دون دولة؟
وهل من دولة، وديمقراطية وحريات، من دون سيادة؟
ونقصد بها، تكراراً، سيادة الشعب على حكامه وليس العكس.
إن سؤ التفاهم بيننا وبين الطبقة السياسية الحاكمة الآن ومنذ سنوات،
مردّه الى نشئها على نحو مخالف، فاستمدت منه الشرعية –إن جاز القول- ومبرّر وجودها بالذات.
فهي، حكماً، ضد المصالحة الوطنية، وخصم دائم للدولة الحقيقية، ومع دوام الفرقة بين اللبنانيين، وبالتالي، محكوم عليها بالاعتماد دائماً على الأجهزة الأمنية،
وعلى مثل ما حدث يوم السابع من آب من العام الفائت:
لقد اعتبرت المصالحة التاريخية في الجبل انقلاباً عليها،
مثل كل مصالحة بين الطوائف اللبنانية،
يقضي بانقلاب مضاد، واعتقالات بالمئات، وترهيب يطاول النواب أنفسهم،
ومحاكمات تتواصل فصولها حتى هذه الساعة.
* * *
أيها الأصدقاء،
إنني أفهم هذا القلق في عيونكم، مقروناً بالتساؤل حول المستقبل والمصير.
فالتغيير الهائل الذي تتوالى فصوله بوتيرة مذهلة يبعث على مثل هذا القلق.
ولا مفر من ذلك.
إلا إن لبنان، وعلى رغم ما أصابه، ظلّ معطى دولياً وإقليمياً ثابتاً.
إنه باق ضرورة،
لأهله ولمحيطه القريب والبعيد.
والأهم من ذلك،
إن هذه الروح التي تضجّ في صدور شبانه وشاباته
قد فاجأت المكلفين بترهيبهم، كلما رفعوا الصوت هاتفين باسم لبنان،
أمام قصر العدل يوم السابع من آب،
وفي السجون والمعتقلات!
فتعب الإرهاب، ولكنهم هم لم يتعبوا.