خلوة بكفيا، السبت 23 حزيران 2001
أيها الرفاق الأعزاء،
لا أدري إذا كان من حقي أو من واجبي أن أرحّب بكم في هذا البيت، بيت الرئيس المؤسّس الشيخ بيار الجميّل.
إن لكم فيه، بما هو رمز وقيمة وعنوان، ما للمقيمين فيه، حالاً، وأكثر.
فمن يرحّب بمن؟
إنما نحن هنا لاستلهام روح بيار الجميل وتعاليمه في شأن يقلقنا جميعاً، ويقلق كل الكتائبيين من دون استثناء، كما يقلق الكثيرين من اللبنانيين، ألا وهو وجود الكتائب وحضورها، والدور الذي كان لها في زمن مضى، فتراجع، مخلّفاً فراغا! على المستوى الوطني، وخللاً في التوازنات التي يقوم عليها لبنان، لبنان العيش المشترك وملتقى الأديان والحضارات.
فلا بد في أي محاولة للنهوض بالكتائب من العودة الى بيار الجميل وتعاليمه.
ولعل في المكان – هذا المكان – ما يساعد على ذلك.
إن لكل منا ذكريات فيه عزيزة، ومشاهد مطبوعة في ذهنه لا بد من أن تستفيق وتضيء أمامه الدرب وتسهّل البحث وتختصر دروباً عديدة.
أما لقاؤنا فمثل أي لقاء من اللقاءات التي تعقد هنا أو هنالك للتحاور وتبادل الآراء.
فلسنا جبهة أو تجمعاً أو هيئةً أو تنظيماً أو فريقاً يقارع فريقاً. بل تلاقي إرادات على البحث معاً، والتفكير معاً بصوت عال، وصولاً الى توصيات أو مقترحات تبلور في صيغة أكثر وضوحاً وتكاملاً.
ولا بد من أن يتبع هذا اللقاء لقاءات أخرى، أوسع أو أصغر، في حوار يشارك فيه أكبر عدد ممكن من الكتائبيين، القدامى والجدد، ويؤدي، في النهاية الى تصوّر مشترك لما ينبغي أن تكون عليه الكتائب، حاضراً ومستقبلاً.
هذا ما توافقنا عليه نحن المجتمعين هنا اليوم، بعد سلسلة اجتماعات بدأت صغيرة ضيقة، فاتسعت رويداً رويداً، لتصبح هذا اللقاء الموسع، نسبياً، محطة نستخلص في خلالها ما كان تداوله من أفكار وآراء.
هذه هي الغاية من لقائنا اليوم، وتحت هذا السقف. أما كلمتي، فللتأكيد على هذا كله من جهة، ومن جهة ثانية لتقديم بعض الخلاصات لما تمّ التداول في شأنه حتى الآن:
أولاً: المضي في عملية المصالحة الكتائبية، والتي تعني عودة الكتائبيين جميعاً الى داخل المؤسسة الحزبية، بروح المصالحة الحقيقية، أي الاعتراف بالآخر، وبأن لا أحد كان منزّهاً عن الخطأ، وبأن حقيقة الكتائب تتمثل في كل الأفرقاء مجتمعين لا في أي فريق وحده، ولا في أي شخص وحده. أما الخلافات في الرأي، على أي مستوى كان، فهي تعالج وتسوّى داخل مؤسسات الحزب، وبالطرق الديمقراطية.
ثانياً: لا غنى في هذه المصالحة وفي أي محاولة للنهوض بالكتائب، من العودة الى القيم التي قامت الكتائب عليها وكانت سرّ صمودها وتناميها وبلوغها المكانة التي بلغتها، سياسياً ووطنياً. فالكتائب، أساساً، إطار للتنشئة الوطنية والمدنية، وللتنشئة السياسية أيضاً: إن المحبة، والنزاهة، والاستقامة، ونكران الذات، والتضحية، هي من مقومات وجود الكتائب التي، إذا سقطت، سقطت الكتائب كتنظيم سياسي يجب أن يكون فوق الشبهات، وتعذر عليه القيام بدوره الرائد والطليعي.
ثالثاً: والحقيقة تقال أن النهوض بالكتائب يقتضي إطلاق حركة إصلاحية شاملة تتدرّج خطوات متلاحقة متكاملة:
- أولى الخطوات هي في تلاقي الارادات على خلق مناخات صحيّة في الكتائب، سليمة، نقية، شفافة، تفضح الفساد، وتكشف العيب وتدل إليه صراحة فيستحى به. لقد أورثتنا الحرب وغياب الدولة عيوباً كثيرة، فينبغي القيام بحملة مضادة من هذا القبيل، بل بحملات متتالية. ولعلّه من المناسب أن نتذكر عظات الرئيس المؤسس في هذا السياق، بل لنتذكر كم كان مثالاً وقدوةً طالما أننا هنا لنستوحي تعاليمه التي هي أفعال أكثر مما هي أقوال.
- لا بد من إصلاح النظام العام لا تعديل بعض مواده فقط. فهو دستور الحزب وقانونه الأساسي والعقد الذي يربط ما بين الكتائبيين جميعاً بعد بيار الجميّل. فيجب أن تكون له قدسيته والحرمة التي لكل دستور، فلا يعدّل كيفما كان وفي أي وقت كان. بل بموجب أصول وآلية ينصّ عليها هذا النظام نفسه ويحكم باتباعها.
إن إصلاح النظام العام يطرح أكثر من سؤال حول سلطة القرار في الكتائب، وكيف تتكون وتتشكّل، وحول مقدار الديمقراطية فيها وأشكالها، وحول التناوب عليها منعاً للاحتكار، ناهيك عن الحاجة الى هيئة تنظر في مدى انطباق قرارات هذه السلطة والأنظمة التي تستحدثها على أحكام النظام العام والأصول التي ينصّ عليها. ولعل الأهم من هذا كله هي مشاركة الكتائبيين عموماً، لا في تشكيل السلطة فقط، بل في القرار السياسي أيضاً. وهو أمر موقوف على مدى أهلية الأطر التنظيمية لتأمين هذه المشاركة.
رابعاً: ولا فائدة من إصلاح النظام من دون إصلاح بنيان الكتائب المتهدّم منذ زمن، أو على الأقل، منذ بداية الحرب اللبنانية وحلول التنظيم العسكري مكان التنظيم السياسي. إن لمن المسلّم به أن هيكلية الكتائب، حالاً، هيكلية متداعية، بل خربة. فينبغي إعادة بنائها من الصفر تقريباً، من القاعدة الى القمّة، أي من القسم الكتائبي الذي هو الوحدة –الأساس، الى أعلى وحدة. فلا معنى أن السلطة في الكتائب تنبثق عن إرادة الكتائبيين طالما أن بنية الكتائب قد فقدت كل ما كانت تختص أو تتميّز به من دقة تنظيم، ومتانة بنيان. فالصفوف المنظّمة أضحت فوضى على كل المستويات.
خامساً: ولعل أكثر الإصلاحات إلحاحا هو إصلاح الإدارة المركزية للكتائب التي أصبحت إدارة وهمية الغاية منها فقط تأمين عدد من الأصوات في انتخاب أعضاء القيادة الحزبية العليا. وهذه المسألة تطرح أيضاً مسألة الإصلاح المالي في كل ما يتّصل بسياسة الواردات والنفقات، ومقدار مساهمة الكتائبيين في الواردات المالية التي ترتدي أهمية بالغة من الناحية المعنوية.
وغني عن القول أن استقلال الكتائب السياسي موقوف على استقلالها المالي أو الاقتصادي.
* * *
تلاحظون معي كم هي الورشة، ورشة النهوض بالكتائب، كبيرة وعظيمة. وقد أجزت لنفسي تبيان بعض جوانبها، للدلالة على أن الاستعداد للاستحقاق المتمثّل في المؤتمر العام يكون بالاستعداد للورشة الكبيرة والعظيمة. ولمثله يجب أن تعقد الاجتماعات واللقاءات وحلقات الحوار.
* * *
أيها الرفاق،
الكتائب ليست طفرة،
ولا هي مشروع سلطة أو تجمّع وجهاء سياسة وهواة نيابة.
فلنشوئها أسباب تاريخية متصلة بوجود لبنان السياسي واستقلاله وسيادته.
إنها التنظيم الجماهيري الهادف الى إقحام اللبنانيين عموماً والمسيحيين خصوصاً، ومن موقع الثقة في النفس والشعور بالمسؤولية، في التجربة الحضارية والإنسانية التي تشكّل معنى وجود لبنان ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، تجربة التلاقي والتفاعل بين الأديان والثقافات والحضارات، وخصوصاً بين المسيحية والإسلام. أما دور الكتائب فهو أن تكون دائماً الطليعة المنظمة والمتحركة في هذا الاتجاه يثق فيها المسيحيون ويطمئنون الى مبادراتها وقراراتها.
هكذا كان دورها في الثلاثينات والأربعينات، في النهضة الشبابية التي مهّدت للاستقلال، وفي معركة الاستقلال نفسها كما في التهيئة لها من خلال تلك الشرعة التاريخية التي كان التعارف على تسميتها بالميثاق الوطني. فأسست لوطن ليس كسائر الأوطان، ولدولة ديمقراطية سيدة ومستقلة هي الأولى من نوعها في هذا الشرق.
وهكذا كان الدور في أحداث 1958 ، في الثورة التي رمت الى إلحاق لبنان بالجمهورية العربية المتحدة، وفي الثورة المضادة التي، في خلال عشرين يوماً، أعادت للبنان توازنه فأنقذته مما وقعت فيه سوريا عهدذاك وتراجعت عنه بعد ثلاث سنوات.
وهكذا كان الدور أيضاً في مطلع السبعينات عندما تصدّرت الكتائب تلك المقاومة لما تعرّض له لبنان نتيجة طغيان العمل الفلسطيني المسلّح على الدولة وسيادتها، فحالت دون سقوط لبنان نهائياً وحفظت له مقوّمات وجوده، وشرعية هذا الوجود.
ونرانا في غنى عن تعداد ما دفعته الكتائب من أثمان في هذه المحطات الثلاث، وعن التدليل أيضاً على صواب ما فعلت وصنعت.
فلهذا الدور التاريخي كانت الكتائب لا لسواه من الأدوار، ولا طبعاً لوظيفة شاهد الزور كالتي يريدونها لها في هذا الزمن. وفي الأمر ما فيه من دلالة على الحاجة الى شهادة الكتائب في واقع لا يستحق شهادتها الحقيقية.
إننا لا نقلّل مثلاً من أهمية ما أقدمت عليه سوريا في الآونة الأخيرة. ففي إفراجها، عسكرياً، عن بعض المناطق اللبنانية، ما يحقق انفراجاً مهمّاً في سماء العلاقة بين البلدين. فلسنا ممن يحجبون الشهادة الحسنة في الأعمال الحسنة. وحسناً فعلت دمشق وهي تنفتح على اللبنانيين على هذه الصورة. وحسناً يفعل الحكم القائم وهو ينفتح أيضاً على معارضيه بعد انغلاق.
إلا أننا لا نستطيع أن نشهد على أن السيادة قد اكتملت، وأن الاستقلال قد تعافى. وحسناً يفعل العهد وهو ينفتح بدوره على طروحات الآخرين لعلّ في الأمر ما يشكّل بداية حوار وطني حقيقي لا يستثني أحداً.
والكتائب هي لمشروع دولة القانون والمؤسسات، السيدة المستقلة، ولمشروع وطن هو ضمانة للحريات وحقوق الإنسان.
أما مشروع إلغاء الكتائب فهو مشروع قديم يعود الى زمن الانتداب.
زال الانتداب وبقيت الكتائب.
وإذا صحّ أن الكتائب اليوم هي أشبه بجسم مقطوع الرأس أو جماعة بلا قيادة، فهي حال لن تدوم طويلاً. وليس أدلّ على ذلك من هذا التلاقي الذي نشهده اليوم بين معظم القيادات الكتائبية، كما لم يحدث منذ سنوات، وبالتحديد منذ غياب الرئيس المؤسّس.
والغاية من هذا التلاقي، ملء فراغ في مرحلة لا تسمح بأي فراغ وبأي غياب للكتائب. إنني أنتهز المناسبة لدعوة كل الأقسام والأقاليم والمناطق الكتائبية في كل لبنان وبلدان الاغتراب الى التحرّك هي أيضاً في هذا الاتجاه. فلا شيء يمنع أو يحول دون هذا التحرّك، تماماً كما نفعل هنا اليوم.
لا شيء يمنع أو يحول دون إسماع صوت الكتائب.
ولا أحد يستطيع أن يمنع الكتائب من أن ترفع صوتها، ومن أن تفكّر، وتؤمن، وتعد العدّة لغد مشرق، لها وللبنان.
عشتـم
وعاش لبنـان