كلمة فخامة الرئيس امين الجميل
حفل تخريج الفوج السابع والعشرين لطلاب
ثانوية راهبات الوردية – المنتزه
* * *
12 أيـار 2001
لو كان لي أن أطلق تعريفاً لهذا المعهد، يحدّد مواصفاته ويدلّ الى خصائصه وما يتميّز به لقلت:
إنه مشتل متفوقّين
فالتربة، تربة خصبة من تراب لبنان،
واليد التي تزرع، يد تحب الأرض وتتقن الزرع وتحنو على ما زرعت بحنان الأم الذي لا يعرف حدوداً.
أجل، هذا مشتل لانتاج الشتول الفضلى التي لا تباع ولا تشرى. توزع فقط على من يحب ويهوى الارتقاء بالذكاء الى مستوى النبوغ، في البلد الذي كل ثروته هو إنسانه والنبوغ.
إن من حق راهبات الوردية علينا أن نعترف لهنّ بهذا الإنجاز، وأن نشكرهنّ أيضاً على ما كلّفه من محبة، وعطاء، ونكران للذات، كما في كل إنجاز إنساني كبير أو عظيم، وعلى ما استلزمه من وطنية لبنانية تصل الى حد الترهّب أيضاً للبنان.
وهي الدفعة السابعة والعشرون من المتخرّجين، متفوّقين، يزيدون من ثروة هذا البلد، أو على الأقل يعوّضونه ما يخسره في كل شهر وعام من كفايات تذهب هدراً على حروب يقال عنها أنها ضرورية ولازمة لإحلال السلام بين شعوب هذه المنطقة الباحثة عبثاً عن السلام،
أو تهاجر مرغمة الى حيث التفوّق لا يخضع لسقف أو حدود.
وليست مصادفة أن تمتلئ المختبرات ومراكز البحوث العلمية، في الخارج، والمؤسسات الطبية الذائعة الشهرة، بالمتفوقين من شباب لبنان. فالحروب تتوالى على هذا البلد منذ عقود من السنين، تقطع الأرزاق والأعناق ولا تدع للحياة منفذاً.
وفوق هذا كله، يبدو لبنان دائماً كما لو أنه لا يتّسع للتفوّق فيما الحقيقة أن ضآلة رقعته تحكم عليه بأن يكون متفوّقاً، في العلوم والثقافة وكل ما هو نتاج العقل والفكر البلا حدود. وهو صاحب ثروة على هذا الصعيد بلا حدود، في زمن باتت المادة الأولية في الاقتصاد غير مادية. إنه الاقتصاد القائم على المعرفة في الدرجة الأولى، فكيف لا يكون لبنان أغنى بلد في العالم أو من أغنى البلدان؟َ!
وإني لأتساءل، هنا، إن لم تكن كل هذه الحروب وسيلة لمنع لبنان من أن يكون بلداً مزدهراً. فالازدهار الاقتصادي فيه يطلقه ويزيده تفوّقاً، بل يزيده ديمقراطية وحريات هي خطر على الأنظمة القائمة على منع الديمقراطية والحريات. كانت هذه دائماً هي مشكلة لبنان مع محيطه: لقد حباه الله ما يؤهله ليكون تجربة إنسانية حضارية يقتدى بها، ومثالاً يجدر تعميمه كما كل التجارب الإنسانية الناجحة، ولكن، بدلاً من أن يلقى الاحترام الذي يستحقّه، لقي الصدّ والرفض والإصرار على جعله مستودعاً للصراعات الإقليمية على أنواعها.
كان بلد اللجؤ السياسي بامتياز، فأصبح السجن والنفي والإبعاد من عاداته.
وليست مصادفة أن يطاول القمع بعض العاملين في هذه المؤسسة الرائدة، التي جعلت من التفوّق في المعرفة هدفاً لها.
إنه الخوف من الحقيقة.
فقوبل القمع بالمزيد من الإصرار على طلب المعرفة والحقيقة.
هكذا انتصرت الشعوب التي ابتليت بأنظمة القهر والقمع، في كل العصور والأزمنة، وخصوصاً في هذا العصر، في الشرق والغرب وفي كل أصقاع الأرض.
وهكذا انتصر لبنان في السابق على كل أشكال القهر والقمع، بالمزيد من المعرفة، وبالمزيد من الإصرار على الحقيقة.
وهو، في أي حال، حقيقة تاريخية ثابتة على مرّ العصور والأزمان.
عديدة هي الإمبراطوريات والغزوات التي مرّت من هنا، فزالت كلها وبقيت الحقيقة.
ومن النافل القول أن ما تترهّب له هذه المؤسسة هو الباقي، وهو الثروة التي تبقي لبنان بلداً متفوّقاً.
فشكراً لكل من ترهّب على هذه النيّة،
وهنيئاً للمتخرّجين تفوّقهم،
والنصر، في النهاية، للحقيقة،
وللبنان.
* * *
وصيّتي إليكم أيها المتخرّجون الأعزاء، أن تتمسّكوا دائماً بهذه الحقيقة،
وأن تحتفظوا في القلب والفكر بما نلتموه من هذه الدار، من رعاية، وعطف، وتحصيل، ومعرفة، فهي تستحقّ وفاءكم على مدى الحياة،
وتذكّروا دوماً أن الأوطان تبنى بسواعد الشباب، فلا تبخلوا على لبنان بما يستحقّه. وهو، في أي حال، وطنكم، أرضه أرضكم، وسماؤه سماؤكم، تعتزّون بالانتماء إليه ويعتزّ هو بحدبكم عليه،
آمنوا به، فيسهل عليكم تحريره وفكّ قيوده وتصغر كل الصعاب.
إقرأوا تاريخه، فيتأكّد لكم أنه بلد لا يؤخذ ولا يبتلع ولا ينال منه أي احتلال.
بل آمنوا بالحياة، فتتضاءل مشقّاتها وما يعترضها من تجارب هي، في النهاية، امتحان لهذا الإيمان وصقل له،
وقولوا معي:
نؤمن بالله،
نؤمن بلبنان،
نؤمن بالحياة.
فيحيا لبنان الى الأبد.