خطاب الرئيس أمين الجميل في 14 شباط 2012
في السنواتِ الماضية أحيينا ذِكرى غيابِ الرئيس رفيق الحريري. أما هذه السنة، فنحتفلُ بعودتِه. عاد مع انتشارِ الثوراتِ العربية، عاد مع تجديدِ مفهومِ لبنان أولاً، عاد مع القرارِ الاتهامي، وغداً، سيُطِلُّ مع الحكمِ النهائي.
حين يعود شهيدٌ، كل شهداءِ القضيةِ الواحدةِ يعودون، يَرجِع بيار وأنطوان وجبران وسمير وجورج ووليد وباسم، وكلُّ الرفاقِ والمواطنين الأبرياءْ الذين سقطوا شهداءَ الغدرِ المعلوم. وفيما يَنجلي الاتهامُ باغتيالِ رفيق الحريري، لا نزال نَترقّب التحقيقَ باغتيالِ نجلي بيار ورفيقي أنطوان وسائرِ الشهداء. وإني على يقينٍ من أنَّ ما من قوةٍ تستطيع وقفَ مسارِ المحكمة. إن الأحكامَ ستصدُر، والأقنعةَ ستسقُط، وتَتحقَّق العدالة.
يا صديقي سعد، يا تيارَ المستقبل، يا حلفاءَنا في ثورةِ الأرز: معاً ثُرنا في السنواتِ الأخيرة، معاً انتفضنا، معاً تظاهرنا، معاً قاومنا، معاً وحَّدنا الشعب، معاً اضطُهِدنا، معاً سَقط شهداؤنا، معاً حرَّرنا الأرض، معاً ساهمنا بإطلاقِ المحكمةِ الدولية، معاً ثَـبّتنا أسسَ الميثاقِ الجديد، ومعاً سنبقى. سنبقى أوفياءَ لشعبِ ساحةِ الحرية، أوفياءَ لروحِ الشهداء، أوفياءَ للمبادئِ والثوابت، أوفياءَ للبنانَ الواحد الموحَّد.
14 آذار ليست الأحزابَ والتياراتِ السياسيةَ المجتمِعةَ هنا فقط. 14 آذار، بل ثورةُ الأرز، هي كلُّ اللبنانيين المؤمنين بسيادةِ لبنان واستقلالِه، بحريتِه وديمقراطيتِه، بمشروعِ الدولةِ القوية، بالمجتمعِ التعددي. المؤمنين بولاءِ شعبِه للوطن اللبناني فقط، بدورِ المرأة، بنضالِ الشباب. المؤمنين بلبنانَ المحيّد عن الصراعات، بنهضةِ الشعوب العربية، بحركةِ السلام وحقوقِ الإنسان، بلبنان
طَوالَ ثلاثين سنة، تواطأ العديدُ من القِوى والدولِ على لبنان. على كيانِه ودولتِه، على رئاستِه وجيشِه، على نظامِه الديمقراطي وصيغتِه التعددية، على معجزةِ اقتصادِه وتجربةِ عيشِه. حاولوا، وما أكثرُهم، أن يَخلقوا لبنانَ يُشبِهُم، وصارت أقصى أمانيهم اليوم أن تُشبِهَ دولُهم لبنان. لقد انتصرنا على الجميعِ وبَقينا هنا. انتصرنا بالصمودِ والمقاومة، بالعنادِ والوعي، بالاستشهادِ والحياة، بالحكمةِ والديبلوماسية، وأخيراً بثورةِ الأرز.
ثورتُنا غَـيّرت وَجهَ لبنان فاشتَهـتْـهُ شعوبُ المنطقة. قَرّرت السيرَ على خُطانا، فالتهبَ الشرقُ العربي بشُعلةِ الحرية. نحن تحرّرنا من جيوشٍ وهي تَتحرّر من أنظمة. لكن الحريةَ ليست شعاراً بل ممارسة. مع هذه الثوراتِ المـتـنقِّلة من مجتمعٍ عربي إلى آخر، بدأنا نعرِفُ جيداًً لماذا حاولوا إجهاضَ ثورةِ الأرز، ولماذا اغتالوا قادتَها ويواصلون تهديدَ قادةٍ جدد. اليوم بدأنا نعرف جيداًً لماذا عمَلوا على ضربِ الاستقرارِ وإسقاطِ الحكومات وتعطيلِ بناء الدولة. كانوا يخافون من أن تصِلَ عَدوى ثورةِ الأرز إلى أنظمتِهم ومجتمعاتِهم، وعِطرُ الديمقراطيةِ إلى شعوبِهم، ونسماتُ الحريةِ إلى الإنسانِ العربي. لكنها وصَلت. إلى البعضِ وصلت مذكراتُ جلبٍ وإلى البعض الآخر مذكراتُ تنحي.
على غرارِ ثورة الأرز، نأمل أن تُزهِرَ ثوراتُ العالمِ العربي وَحدةً وأُخوّةً وحريةً وديمقراطيةً ومساواةً واحتراماً للتعدديةِ وحقوقِ الإنسان والجماعاتِ بالمعنى الحقيقيِّ والعميقِ والدستوريِّ لكل كلمةٍ من هذه الكلمات. نريد أن يَنجحَ اللقاءُ بين الشعوبِ العربيةِ والديمقراطية، واللقاءُ بين الثوراتِ والحرية، واللقاءُ بين العربِ والعصر. وأيُّ طرفٍ داخلَ الأنظمةِ أو الثوراتِ يُعطِّلُ فرصةَ هذه اللقاءاتِ الحضاريةِ والتاريخيةِ يَتحمّل المسؤوليةَ أمامَ التاريخِ والأجيال.
ولأننا نَحرَصُ على الثوراتِ العربية، أَعلنتُ في 27 كانون الثاني الماضي الشِرعةَ للشعوبِ العربيةِ والأنظمةِ المقبلة، فالتقت بأهدافِها وقيمِها مع وثيقةِ الأزهر الشريف. هذه الشِرعةُ هي مساهمةٌ لبنانيةٌ عمليةٌ في نهضةِ الشعوبِ العربية الثائرةِ على الظلمِ والأحادية. فلا سلاحَ لدينا نُصدِّرُه، ولا مرتزقةَ لدينا نُرسلُهم إلى هنا وهناك. وأساساً ليس هذا دورَ لبنان في محيطه. دورنُـا الفكرُ والقيمُ، المَثلُ والمِثال. لا يجوزُ أن نقعَ في ما اتَهمْنا غيرَنا بالقيامِ به ضِدَّنا، فعانينا من التدخّلِ في شؤونِنا، من استباحةِ الحدودِ، من تهريبِ السلاحِ والمسلحين، ومن تأليبِ فريقٍ لبنانيٍّ على فريقٍ لبنانيٍّ آخر، وحتى على دولتِه.
بقدر ما نحن نؤيدُ ونتعاطفُ مع الشعوبِ العربيةِ المناضلةِ من أجل الحريةِ والديمقراطية، ولا فضلَ لنا بذلك طالما أننا آمـنّا بهذه القيمِ والمبادئْ على مرّ الزمنِ، وهي عِلّـةُ وجودِ لبنان، بنفْسِ القدَرِ نؤمن أن لا مصلحةَ للبنانَ بأن يتورّطَ أو أن يَتدخّلَ في شؤونِ الدولِ الداخلية، لاسيما التورطُ بأيِّ عنفٍ سياسيٍّ في أيِّ دولة. إن دورَ لبنان هو الحفاظُ على حيادِه لأن تأثيرَ تدخّلِنا في شؤونِ الآخرين لن يؤثّـرَ على مجرى الصراعِ بين الأنظمةِ والثورات، بينما يُؤثِّـر تَدخّلُ الآخرين في شؤوننا على أمنِ واستقرارِ لبنان.
إن الشِرعةَ التي قدمتُ تُجسّد قناعتَنا بضرورةِ التضامنِ العربي من أجل تحقيقِ أماني الشعوبِ العربيةِ التوّاقةِ إلى الحريةِ والتقدمِ، وإلى التحرّرِ من كلِّ أنواعِ التبعية. وفي هذا المجال، إذا كان الحوارُ بين الأنظمةِ والثوراتِ بات شِبهَ مستحيلٍ بسببِ دورةِ العنفِ، فأدعو القوى العربيةَ المؤمنةَ بقيمِ الحريةِ والديمقراطيةِ والدولةِ المدنية إلى إطلاقِ ورشةِ حوارٍ حول مستقبلِ الشعوب العربية. خصوصاً وأنَّ شيخَ الأزهر بادرَ إلى وضعِ أسسِ هذا الحوارِ، كما أن لبنانَ يبقى أرضاً مفتوحةً لاستقبالِ مثلِ هذه اللقاءات.
نحن لسنا مع الثوراتِ لأنها ضِدَّ الأنظمةِ فقط، بل لأنها مع الحريةِ والديمقراطية. ولسنا ضِدَّ الأنظمةِ لأنها ضِدَّ شعبِ لبنان واشتركت في المؤامرةِ عليه فقط، بل لأنها ضِدَّ شعوبِها وضِدَّ الإنسان. ولبنان هو جَبهةُ الدفاعِ عن الإنسانِ في هذا الشرق.
نحن مصممون على مواصلةِ المسيرة. وما أنسبْ من مناسبةِ ذكرى استشهادِ الرئيس رفيق الحريري لكي نُجدِّدَ نهضةَ ثورةِ الأرز، فتحقّقُ أحلامَ شعبِها وتلتقي مع أحلامِ الشعوبِ العربية؟
لقد عمَلنا وما زلنا نعمَلُ من أجل إنجازِ السيادةِ والاستقلالِ وبناءِ الدولةِ وتعزيزِ رسالةِ لبنانَ تِجاه مواطنيه ومحيطِه والعالم. من هنا نطالبُ بتنفيذِ قراراتِ الحوارِ الوطني والقراراتِ الدوليةِ، فيتِمُّ حصرُ السلاحِ بالدولة، وتفعيلُ المؤسساتِ الدستوريةِ والإدارية لتتمكّنَ من النظرِ إلى الناسِ فتعملُ على حلِّ مشاكلهِم اليومية وهي تكاد تَطغى على همومِ المستقبل والمصير. إن الشعبَ يَئنُّ تحت وطأةِ الأزَماتِ الاجتماعيةِ والاقتصاديةِ والتربويةِ والصحية، فيما يرى الفسادَ يَستشري من دو إصلاحٍ، واللامبالاةَ تسود من دون تغييرٍ، كما أن الحكومةَ تُعطِّل نفسَها وتُعطِّل حياةَ الناس والبلاد.
النهضةُ الجديدة تبدأ بعودةِ الحياةِ الديمقراطية إلى دورتِها الطبيعيةِ من خلال تجديدِ اللقاءِ الوطني بين كلِّ الذين يؤمنون بمبادئِ الحريةِ والديمقراطيةِ وسلطةِ الدولة. لقاءٌ يُعيدُ تكوينَ الأكثريةِ النيابيةِ الأساسية. لقاءٌ يُعيد هذه الأكثريةَ إلى الحُكمِ لأنها هي المؤتمنةُ على مشروعِ الدولة. هل يُعقل أن نؤيدَ الشعوبَ العربيةَ للخروجِ من سلطةِ سلاحِ الأنظمة، ونُبقيَ شعبَ لبنانَ تحت سلطةِ السلاح؟ الزمن العربيُّ هو زمنُ الثورة، والزمن اللبنانيّ هو زمنُ التغييرِ، فلنغيّر.
في ذكرى استشهادِ رفيق الحريري ورفاقِه، وهم رفاقُنا، نستنهضُ الهِمم لإنقاذِ لبنان وحمايةِ الثوراتِ العربية. هذه لحظةٌ تاريخية تتجلّى في حياةِ الشعوب. ولا يجوز لشعبٍ كالشعبِ اللبناني الذي قَدّم على مذبحِ الحريةِ هذا العددَ الهائلَ من الشهداء، وهذه السنواتِ الطويلةَ من المعاناة، ألا يَلِجَ اليومَ دولةَ الحريةِ والوِحدةِ والرفاهية في جوٍّ ميثاقيٍّ، أخويٍّ، وطنيٍّ يفتخر به الشهداءُ والأحياء.
وأنتم الموجودون هنا، أنتم المراهِنون على ثورة الأرز، تحمِلون وعدَ الغدْ. أنتم رسالةُ الأرز إلى لبنان، وصوتُ لبنانَ إلى العالم. أنتم تُجسِّدون فكرةَ لبنانَ الحر، وصورةَ لبنانَ الموحَّد. كنتم أولَ شعبٍ في الشرق ينشِئُ دولةً في بدايةِ القرن الماضي، وها أنكم أولُ شعبٍ في الشرقِ يُطلق ثورةً في القرنِ الحالي. عاشت دولتُنا، دولةُ الديمقراطيةِ والتعددية، وعاشت ثورتُنا، ثورةِ الوحدةِ والحرية.
أمـين الجمـيّـل
بيروت في 14 شباط 2012