حضرات المقامات الرسمية والدينية
إيها الحضور الكريم
من ناحيتِه اللاهوتية يستطيع الحوارُ المسيحيُّ الإسلامي أن يحصلَ في أيِّ بلدٍ من العالم. لكن من ناحيةِ الشراكةِ الإنسانية والوطنية، فمكانُ هذا الحوار هو لبنان.
هنا أعطت المسيحيةُ والإسلامُ موعِداً مع الإنسان.
هنا التقَت الآياتُ والسُوَر.
هنا جاورَت كنيسةُ مار جُرجس المارونية جامعَ محمد الأمين.
هنا تناغَم قرعُ الأجراس مع أصواتِ المآذِن.
هنا شُـيِّدَ مختبرُ تعايشِ الأديانِ والحضارات والهويّـات.
هذا اللقاءُ القائمُ من دون كيانٍ دستوريٍ منذ نحو إلفٍ وأربعمائةِ سنةْ، شَـرَّعته دولةُ لبنان منذ تسعين سنة. فكان أولُ مختَبرٍ حيٍّ في العالم بين المسيحيين والمسلمين. الدين صار إنساناً.
أردنا هذا اللقاءَ شَراكةَ حياةٍ، ورهاناً وطنياً، وخِياراً سياسياً، ونموذجاً حضارياً. أردناه تحدي المحبةْ بوجهِ الأحقاد، وتحدي السلامْ بوجهِ الحروب، وتحدي الميثاقْ لعبثيةِ الانقسام، وتحدي المساواةْ لذهنية التسامح.
ورغمَ كلِّ ما تعرَّضَت له الصيغةُ اللبنانية طَوالَ عقود، يبقى التعايشُ المسيحيُّ الإسلامي في لبنان أمانةَ الأديانِ ووديعةَ الآباءِ والأجداد. إن صيغةَ التعايش هي الخِيارُ الأمثلُ المُتاحْ شرطَ أن نفهمَ أبعادَها، بل قدسيتَها، وشرطَ أن نحصِّنَها دوريّـاً بهندساتٍ دستوريةٍ تؤمِّن لكلِّ مكوِّنٍ لبنانيٍّ الحريةَ والأمنَ والطمأنينةَ في فضاءِ التعدديةِ الحضاريةِ والمساواةِ المواطنية، وفي إطار دولةٍ واحدة.
وإذا كان الإيمانُ يَقوى أمامَ المصائب، فحريٌّ بالثقةِ أن تتعزَّزَ إبّـانَ الأزماتِ الوطنية.
إني أثِقُ بجوهرِ الصيغةِ اللبنانية. وأثقُ بأنَ الصيغةَ اللبنانية تَدفعُ ثمنَ نجاحِها لا ثمنَ فشلِها. فلو كانت الصيغةُ اللبنانية خِياراً خاطئاً، لما اجتمعت كلُّ قوى التطرّفِ والعنصريةِ والإلحادِ والشموليةِ لضربِها ومَنعِها من أن تكونَ القدوةَ للآخرين.
إن توفيرَ ظروفِ نجاحِ التجربةِ اللبنانية لا يُنقذ لبنان فحسب، إنما يُقدِّم للعالم العربي أيضاً مَخرَجاً لتعثّرِ كياناتِه وأنظمتِه وثوراتِه، ويُطي للحوارِ المسيحيِ الإسلامي في الشرقِ والعالم فُرصَ التقدّم، لأن هذا الحوارَ يحتاج إلى تجربةٍ عمليةٍ يستندُ إليها ليعطيَها مثالاً على إمكانية الحياة المشترَكة. فما قيمةُ تطورِ الحوارِ بين المسيحيةِ والإسلامِ من دون نجاحِ الحياةِ بين المسيحيين والمسلمين.
الحياةُ معاً هي المشاركةُ اليوميةْ والمصيريةْ في ترجمةِ القيمِ المشترَكة على أرضِ الواقع من خلالِ نَمطِ عيشٍ متكاملٍ يسمحُ بالانسجامِ مع التنوُّع، فيكون الآخرُ انعكاسي لا عَكسي. إن الإيمانَ بالله من دونِ الإيمانِ بالآخَر هو تشكيكٌ بالله، وبالتالي نقضٌ للمسيحيةِ والإسلام.
من هنا، إن نجاحَ الحوارِ المسيحيِّ الإسلامي يظلُّ رَهنَ تحطيمِ كلِّ بنية إيديولوجية تمنعُ التياراتِ والأحزابَ المختلِفة في هذا الشرق من الاعترافِ بالآخر.
قد يَظنُّ البعضُ أن الحوارَ بين الديانتين، المسيحيةِ والإسلام، هو للحدِّ من الصراع بينهما. ربما. لكن الحقيقةَ هي أن الصراعَ الأساسيَّ يُفترَضُ أن يكونَ بين المسيحيةِ والإسلامِ معاً بوجهِ عالمِ الإلحادِ من جهة، وعالمِ التطرّف من جهة أخرى.
لذلك أدعو إلى تحالفٍ مسيحيٍّ إسلاميّ، لا إلى حوارٍ مسيحيّ إسلامي فقط. تحالفٌ يواجِه الأخطارَ التي تهدّدُ وجودَ الروحِ فينا والقيمِ والأخلاق. تحالفٌ يمنعُ حَرفَ الدينِ وتسخيفَ المُثل وتحويرَ رسالةِ الإنسان.
لقد أثبتَ مسارُ الأحداثِ أنَّ أهميةَ الحوارِ المسيحي الإسلامي لا تَكمُن بمعالجةِ نقاطِ الالتقاءِ والتباين بين الديانتين، بل بكشفِ أعداءِ الله والإنسان والمواطن. أي العدوّ المشترَك.
أكثرُ من ذلك، يُفترض بالحوارِ المسيحيِّ الإسلامي، أن يعملَ على تأسيسِ واقعٍ إيمانيٍّ مشترَك من خلالِ حركاتٍ فكريةٍ تُسهِّل تلاقي المجتمعاتِ التي يعيش فيها مسيحيون ومسلمون. فكلُّ حوارٍ لا يُترجم على أرضِ الواقع يتراجعُ على الصعيد الفكري. واليومْ، مع العولمةِ، ومع نُظمِ الاتصالاتِ ووسائلِ التواصلِ الاجتماعي والمواصلات، لم يَعد يوجد دولةُ إسلاميةٌ وأخرى مسيحية، فكل إنسانٍ أصبح مواطناً في كل دولةٍ من دولِ العالم بوسيلة أو بأخرى. هذا التواصلُ الإنسانيُ الجديد يُلزِم، استطراداً، عولمةَ حقوقِ الإنسان.
في بدايةِ القرنِ الماضيِ وقعت البشريةُ ضحيةَ التطرفِ العقائدي، فكانت الحربان العالميتان الأولى والثانية. وفي مُنتَصفِه وقعت البشرية ضحيةَ التطرفِ الفكريِّ المادّي، فكانت هيمنةُ الإلحادِ التي لم تميّز بين دينٍ وآخَر، فضَربت مناعةَ الفردِ والمجتمعِ، فترنَّحتِ الأخلاقُ واختلطَت مفاهيمُ الخيرِ والشرِ لتُشكّلَ أرضاً خَصبةً لانحطاطٍ إنسانيٍّ معاكسٍ للنهضةِ العلميةِ والتكنولوجية. ومنذُ أواخرِ القرنِ الماضي وقعت البشريةُ ضحيةَ التطرفِ الديني المنافيِ لحقيقةِ كل الأديان، فكان الإرهابُ العالميّ، وقد أصابَ صورةَ لبنانِ والشرقِ والعالمِ العربي.
إن دورَنا، نحن المجتمعين هنا، أن نقولَ للعالمِ بأنَّ قدرَ الإنسانِ ليس التعايشُ مع الحروبِ بل مع السلام، وأنَّ دورَ الشرق ليس تصديرُ الإرهاب، بل الرسالاتِ السماوية، وأنَّ رسالةَ الأديان ليست الإلغاءُ المتبادل، بل اللقاءُ الوِجداني لإسعادِ الإنسان.
إن دورنَا، نحن المجتمعين هنا، أن نقولَ للعالمِ: هذا هو الإسلامُ الحقيقيُّ، وهذه هي المسيحيةُ الحقيقية. وتأكيدُ ذلك يبدأ بإبرازِ هوية لبنانَ والشرق. فخِلافاً لما يُشيِّعُ البعضُ، لم يكن الشرقُ أحادياً، لا في تاريخِه القديمْ ولا في تاريخِه الحديث. هنا وُلدَت التعدديةُ الحضاريةُ والثقافيةُ قبل نشؤِ الأديان. وما التعدديةُ الدينيةُ والطوائفيةُ والمذهبيةُ سوى وجهٍ من وجوهِ التعدديةِ الغنية في هذا الشرق.
***
إذا كان سؤُ الأنظمةِ تجسّدَ بالأحادية، فنجاحُ الثوراتِ العربية يبدأ بالاعترافِ بهذه التعدديةِ واحترامِها وحُفظِ أدوارِ مُـكـوِّناتِها عبر الدساتيرِ الجديدة. ولذلك إنَّ ما يُقلقني في مجرى الأحداثِ الجاريةِ ليس مصيرُ الأكثرياتِ والأقليات، ولا مصيرُ المسيحيين والمسلمين، بل مصيرُ الإنسانِ العربي. حين يُحترمُ الإنسانُ تنتصرُ الثورات، وحين يُحترم الإنسانُ تَنتشر الحريةُ والديمقراطية. وحين تنتشرُ الحريةُ والديمقراطية تَصِل للمسيحيينِ والمسلمين حقوقَهم ويَبلُغ الحوارُ مُناه.
من هذه الزاويةِ بالذات، نَنظرُ بارتياحٍ إلى إقدامِ المرجِعياتِ الإسلاميةِ الرسميةِ على وضعِ وثائقَ تُـذكِّر المؤمنين برسالةِ الإسلامِ وجوهرِه ودورِه، وتحذِّر من حرفِ الإيمانِ لغاياتٍ لا عَلاقةَ للإسلامِ والمسلمين بها. كما نَنظر بارتياحٍ إلى وُرَشِ الحوارِ الإسلامي الإسلامي التي انطلقت في أرجاءِ العالمِ العربي من المغربِ وبلادِ النيل إلى الخليجِ والمشرقِ وبلاد فارس.
إن وعيَ المرجِعياتِ الإسلاميةِ يُشجّع مسيرةَ الحوارِ المسيحيّ الإسلامي. من هنا كان ترحيبُنا بوثيقةِ الأزهر التي صدرت في كانون الثاني من هذه السنة. ومن هنا كان ترحيبُنا بوثيقة تيار المستقبل التي أطلقها منذ أشهر قليلة. ومن هنا بادرنا إلى وضعِ شرعةٍ ـ إطار من أجلِ مستقبلِ الشعوبِ العربية والأنظمةِ الجديدة، وهي تلتقي في جوهرها مع هاتين الوثيقتين.
هذا الوعيُ الإسلاميُّ المرجِعي، واكبته مواقفُ مسيحيةٌ من الفاتيكان وكنائس الشرق الأوسط تُحدِّد دورَ المسيحيةِ والمسيحيين في لبنانَ والشرق وعَلاقتَهم مع محيطِهم. فكان "سينودس من أجل لبنان" الذي أطلقه البابا الراحل يوحنا بولس الثاني، وكان "سينودس من أجل كنائس الشرق الأوسط" الذي أطلقه البابا بنديكتوس السادس عشر، وكان "سينودس الأساقفة من أجل الشرق الأوسط". كما كانت إسهاماتٌ بارزةٌ للكنائس الإنجيلية عبر وثائقَ ومنشورات.
كل ذلك يؤكّد تصميمَ المرجِعيات المسيحيةِ والإسلامية على تَخطّي الصعوباتِ والتصدّي لمحاولاتِ تحويلِ الدين مادةَ صراعٍ، فيما هو روحُ الحركةِ الإنسانية الأسمى.
لنخرُجْ من معاركِ التاريخ إلى رهاناتِ المستقبل. التاريخ في هذا الشرق سيوفٌ ورِماح، أما المستقبلُ فعِلمٌ وثقافة. فلنُعِدْ السيفَ إلى غِمْدِه، ولنرفَعْ الكتاب، كتابُ الله، وهو واحدٌ، وكتابُ الإنسان، وهو واحدٌ أيضاً. هكذا يصبح الحوارُ الثنائي حواراً مع الذات...
أمــيــن الجـمـيّـل
بيروت 18 حزيران 2012