خطاب الرئيس الشيخ أمين الجميل في عيد حزب الكتائب اللبنانية
في 24 تشرين الثاني 2013
قاعة البيال ــ بيروت
* * *
حين يَغيبُ الشهداءْ يُطــلِّون في كلٍ زمانٍ ومكان. وها هو بيار، يُطِلُّ علينا بقامتِه، بابتسامتِه، ببريقِ عينيهِ، بقبلةٍ على علم لبنان. لبنان الذي استشهد بيار في سبيله.
تَشتــدُّ العواصفُ ونؤمن بلبنان. يَـمتــدُّ اليأسُ ونؤمن بلبنان. تتعطّــلُ المؤسساتُ ونؤمن بلبنان. يَشتعِــل العالمُ العربيُّ ونؤمن بلبنان. إيماننا بلبنان أقوى من كلِّ التحديات.
نستمِدُّ إيمانَنا من ثلاثيةٍ مقدَّسة هي الله والشعب والشهداء. نستمِدُّ إيمانَنا من سبعٍ وسبعين سنةً من عُمر حزبِ الكتائب. نستمِدُّ إيمانَنا من تجربةِ صمودِ أجدادِنا عبر العصور بــوَجهِ كلِّ غازٍ أو طارئٍ أو محتلٍّ. نستمِدُّ إيمانَنا من مناعةِ لبنانَ الكِيان أمام المتغــيِّــرات فــبَــقي، ولو مُــترنِّـــحاً، يؤدّي رسالــتَه، عربياً ودولياً، في خدمة قضايا الحق والحرية والانسان. نستمِدُّ إيمانَنا من بيار الجميل المؤسّس، وعلى خطاه نحن سائرون غيرَ مبالاين بالسهام والصعاب. نستمِدُّ إيمانَنا من بيار الجميل الشهيد، نجلي الذي سُررتُ به طِفلاً وفتىً ومناضلاً ونائباً ووزيراً، وافتخرت به شهيدَ الحريةِ والاستقلال. نستمِدُّ إيمانَنا من بشير، الرئيس الذي استشهد على طريق الجمهوريةِ ووِحدةِ لبنان. نستمِدُّ إيمانَنا من كل شهداءِ الحزب، شهداءِ المقاومة اللبنانية، وشهداءِ ثورةِ الأرز، ومن بينهم رفيقُنا الشهيد أنطوان غانم.
نحن جماعةٌ نَــذرَت نفسَها للبنان. شبابُ الكتائب على مَدى الأجيال، شهداؤها بالألوف، وهم أوائلُ مَــن سيّــجَ الأمــةَ بالتضحيات، نُــخَبُها في كل مُنتدى، وبالأمس انــتُــخبَ رفيــقُــــنا المحامي جورج جريج نقيباً للمحامين، عربونَ ثقةٍ بمسيرةٍ مهنيةٍ وبمدرسةٍ وطنيةٍ تسمو على الفئوية.
نحن حزبُ الشهداء لا حزبَ السلاح، فرجاءً لا تُخطِــئوا العنوان. نحن جماعةٌ لا تَبحث عن أعداء لكـــنّــها تَــرُدُّ العدوان. نحن جماعةٌ لا تبحثُ عن سلاحٍ لكـــنّــها تقاومُ كلَّ سلاح. نحن جماعةٌ تَـــمُــــدُّ يدَها وتحتفظُ بزِنْــــدِها، فزنودُ شبابِ الكتائب أنقذَت ألفَ مرةٍ لبنان. نحن حزبٌ في خِدمة لبنان. نعمل من أجل الشراكة مع كل اللبنانيين.
أيها الأصدقاء والرفاق
هل من مناسبةٍ أسمى من التقاءِ عيدِ الكتائب وعيدِ الاستقلال وذِكرى الشهيدِ الحبيب، بيار، لتجديدِ الأيمانِ بالوطن، والثقةِ بالمستقبل، والحلمِ برؤيةِ الحريةِ والديمقراطيةِ تَـــــعُـــمُّ الشرقَ المصلوب. من ها هنا، من العاصمة، وعلى مَقربةٍ من ساحةِ الشهداء، حيث روتْ دماءُ بيار الجميل، في مثل هذا اليوم، سنةَ 1937 انطلاقةَ انتفاضةِ الاستقلال، أجَدِّدُ رِهانَ حزبِ الكتائب على لبنانَ الكيانِ والوطنِ والدولة، على التجربةِ اللبنانية بفكرتِها المبدِعَة وبُعدِها الرسولي وبقدرتِها على التطور لــتُــلــــبِّــيَ طموحَ الأجيال والتكـــيّــفِ مع المتغيِّــرات. من ها هنا، أجدّد رِهانَ الكتائب على قَـــدَرِ المسيحيين والمسلمين أن يَحــيَـــوَا معاً بسلام ومساواة بــحُـــــلَّـــةٍ دستورية حديثة. معاً نَـــهـــزِم مخطّطَ التقسيم، معاً نُـــزيلُ حالاتِ الانفصال، معاً نُــنهي ظواهرَ العِصيان، معاً نَـــعزِلُ التطــــرّفو الهيمنة، معاً نَمنعُ مشاريعَ التوطينِ وأخطارَ النزوح، معاً نَسترجِـــع وِحدتَنا ونَصون حدودَنا، ومعاً نَبني مؤسّساتِــنا الدستوريةَ ومعاً نَستعيدُ قرارنَــــا الوطنيَّ الحر.
اخترنا، إذن، إكمالَ ورشةِ بناءِ لبنانَ الكبير. ولا لبنانُ إلا كبيراً. ليس اليومُ وقتَ التراجعِ عن رِهاننا العظيم، بل وقتُ تثبيـــتِه وترميمِه وإصلاحِه وإنقاذِه وتجديدِ شبابه.
لم يستشهِد شبابُنا من أجل تجزئةِ الكِيان، استُـشهدوا من أجل لبنانَ المميَّـــــز والمتجدِّد في هذا الشرق. ومميّــــزاتُ لبنان هي الحريةُ والديمقراطية والتعددية، الحياةُ الميثاقية والدستورية، والمساواةُ السياسيةُ والاجتماعيةُ والأمنيةُ والانمائية.
أعرف أنَّ هناك ألفَ سببٍ يدعونا إلى التشكيكِ بالتجربةِ اللبنانيةِ بعد عقودٍ مِــن الحروبِ والازَماتِ والخيباتِ والانقسامات والمآسي. لكن ما هي التجربةُ البديل؟ وما هو الرهانُ الآخر؟ وما هو الحلُ الأفضل؟ إنَّ تعزيزَ الوِحدةِ اللبنانية ممكنٌ بعدْ، أما التقسيمُ فمستحيلٌ أمسَ واليومَ وغداً. إن قيامَ الدولةِ ممكنٌ بعد، أما الدويلاتُ فمرفوضةٌ أمسَ واليومَ وغداً.
لذلك، ما بالُـــه حزبُ الله يَرفعُ الصوتَ ضدَّ شركائِـــه في الوطن. ما بالُه يَخرُج عن الانتظامِ العام. ما بالُــه يَطـــرَح نمطَ حياةٍ غريباً عن نمطِ حياةِ اللبنانيين، بمن فيهم الشيعةُ، وعن تقاليدِ لبنان وقيمِه وهويّــــــتِه.
لقد تفاهمنا معاً في هيئةِ الحوارِ الوطني على أن يكونَ سلاحُه داعماً للدولة اللبنانية في إطارِ استراتيجيةٍ دفاعية يقودها الجيشُ اللبناني، وليس أن يكونَ سلاحُه في خِدمةِ أنظمةٍ خارجيةٍ في إطارِ استراتيجية إقليمية لا علاقة لنا بها. حسبي أنَّ حزبَ الله، بمواقفِه الأخيرة في لبنان وسوريا، يَضع نفسَه أمام أخطارٍ لا طاقةَ له ولا للبنانَ على تَحمُّـــلِ نتائجها، وقد بدأت بالظهورِ بأبشعِ صورِها. إنَّ التفــرّدَ بتقريرِ مصير أمن اللبنانيين مرفوض.
* * *
إيها الأحبّاء،
إن أحدَ أسبابِ تجدّدِ الأزماتِ في لبنان يعود إلى أننا نتذمَّــر من سيئات التجربةِ اللبنانية من دون أن نستنبطَ أوجُـــهَها الإيجابية وقدرتَــها على تجديدِ جوهرِها من خلال تطوير شكلِها لتبقى حـــيَّـــةً وملائمَةً لتطورِ المجتمعِ اللبناني ولتحولات المِنطَقة. نجاهرُ بالمشاكلْ ونتجاهلُ الحلول وهي موجودة. لكنْ، مِــنّـــا من يُحجم عن قَبولِـــها خَشيةَ المسِّ بمصالحِ الطوائف غيرَ عابئٍ بمصلحةِ الدولةِ وانتظامِ عمل مؤسّساتِــها ومصالحِ الأجيال الجديدة. ومِــنّـــا مَن يَرفض قَبولَ الحلول اليومَ أملاً، بتطورٍ ما، يُـحسِّن موقِـــعَــه غداً على حسابِ الآخرين.
هذا يعني أنَّ منسوبَ الطائفيةِ والهيمنةِ والارتباطِ بمحاورَ أجنبيةٍ لا يزال مرتفعاً في حياتِنا السياسيةِ اللبنانية. وهذا هو التهديدُ الحقيقيُّ للتجربةِ اللبنانية التي ندعو إلى تحسينها قبل فوات الأوان. هل يجوزُ أن يُخاطبَ بعضُنا البعضَ الآخر انطلاقاً من معادلاتٍ خارجيةٍ وليس من ثوابتَ لبنانية؟ الحلولُ موجودةٌ من خلال الدولةِ وآلياتِــــها الديمقراطية. مشاكلُنا الأمنية يَحُـــلّها الأمنُ الشرعي. مشاكلنا الكيانيةُ يَحُـــلّها الولاءُ المطلَق للبنان. مشاكلُنا المؤسساتية يَحُـــلّها الدستور. مشاكلُنا الدستوريةُ يَحُـــلّها الإصلاحُ الدستوري. مشاكلُنا الاجتماعية يَحُـــلّها التضامن. مشاكلُنا الاقتصادية يَحُـــلّها الاستقرار. مشاكلُنا الأخلاقية تَحُـــلّها النزاهة. مشاكلُنا الطائفيةُ تَحُـــلّها المواطنية. مشاكلُنا السياسيةُ يَحُـــلّها الاحتكام إلى الديمقراطية. ومشاكلنا الميثاقية يَحُـــلّها الحوار. لِنخرجْ من مخاوفِنا وهواجِسنا. لِنكُفْ عن الشكِّ ببعضِنا البعض. حرباً واجهْنا، مقاومةً خُضْنا، شهداءَ قدَّمنا، احتلالاً شَبِـــعْـنا، وصايةً تحمّــلْنا، تقسيماً عَرِفْـــــنا، تهجيراً عانينا، هِجرةً صدَّرنا. مــرّت علينا كلُّ حالات الزمن، فكفى.
· أيُــعقلُ بعدَ نحوِ مئةِ عامٍ على تأسيسِ دولةِ لبنانَ الحديثة أن نكونَ نبحث بعدُ عن ذاتِنا ونتساءلُ عن مَدى ضرورةِ الاعترافِ بالآخر؟
· أيُــعقلُ بعدَ نحوِ مئةِ عامٍ على تأسيسِ دولةِ لبنانَ الحديثة أن نكون نُــنَـــقِّــب بعدُ عن استراتيجيةٍ دفاعيةٍ وكأن لبنانَ حافظَ على كيانِه وحدودِه طوالَ مئةِ عام بالصُدفة؟ وكأن لا جيشَ فيه ولا مناضلين ولا شهداء، ولا علاقاتٍ دوليةً راسخةً، ولا قراراتٍ أمميةً ضامنة؟
· أيُــعقلُ بعدَ نحوِ مئةِ عامٍ على تأسيسِ دولةِ لبنانَ الحديثة أن نكونَ متعدّدي الولاءات بعدُ لدولٍ أجنبيةٍ على حسابِ مصلحةِ الوطن، وكأن لبنانَ بالنسبةِ للبعضِ منا هو الوطنُ الرديف؟ أين صار الاعترافُ بلبنانَ وطناً نهائياً؟ هل جَــفَّ حبرُه أيضاً؟
· أيُــعقلُ بعدَ نحوِ مئةِ عامٍ على تأسيسِ دولةِ لبنانَ الحديثة أن يبقى الفسادُ مستشرياً، والمحسوبيةُ قاعدةً، والاهمالُ عابراً كلَ المناطق، والهِجرةُ قدرُ كلِّ الأجيال، والسلطةُ عاجزةً على كل المستويات؟
· أيُــعقلُ بعدَ نحوِ مئةِ عامٍ على تأسيسِ دولةِ لبنانَ الحديثة ألَّا نتمكن بعدُ من وضعِ قانون انتخابٍ، ومن إجراءِ انتخاباتِ نيابية، ومن تأليفِ حكومةٍ في مهلةٍ معقولة، ومن احترامِ استحقاق الرئاسة الأولى؟
لا يُــعقَــل أن نبقى بعد هذا الزمنِ الطويل نَـــتَـــلــمَّس أبجديّــةَ بناءِ الدولة وممارسةِ الديمقراطية فيما كنا أولَ دولةٍ تتأسس وأولَ ديمقراطيةٍ تَــنــبُــتُ وأولَ تجربةٍ إنسانيةٍ تولد في هذا الشرق. ما هو معقولٌ، هو الخروجُ من الضياعِ والتمزقِ نحو الثقةِ والتصميمِ والإيمانِ بلبنان. وهنا تبرزُ مسؤوليةُ قادةِ الشعب.
نحن الذين نناضلُ على صعيدِ الشأنِ الوطني لا نُمــــثِّــلُ أطرافاً بالمعنى السياسي الحَصري، كما هي الحال في البلدان الأخرى. نحن نُمــــثِّــلُ مكـــوِّناتٍ وطنيةً وروحيةً وحضاريةً ارتضَت، أن تُشكِّلَ نَموذجَ وجودٍ خاصٍّ في هذا الشرقِ والعالم. وبالتالي، إن خِلافاتِـنا محكومةٌ أخلاقياً بسقفٍ ميثاقيٍّ لا نَملِكُ حقَّ تجاوزِه، فنحن عابرون والميثاقُ باقٍ. كما أن خلافاتِنا محكومةٌ وطنياً بمسؤولية ٍكيانيةٍ لا نَملِك حقَّ تغافلِها، فنحن وكلاءُ الكيانِ، والأجيالُ مالكوه. لا يجوزُ أن تهدِّدَ خلافاتُــــنا حياتَـــــنا الميثاقية.
لا نَخفْ تطويرَ النظام، حان الزمنُ لتطويرِ نظامِنا من منطَلقٍ مدنيٍّ ووطني، لا من منطلقٍ طائفيّ وفئوي. إن الحلَّ الوحيد لوقفِ زحفِ التعصّبِ الديني هو الانتقالُ، دون إبطاءٍ، إلى المجتمع المدني. إن حزب الكتائب، ذو التفكيرِ اللبناني، والوجهِ المسيحي، والامتدادِ العربي، و الانتشار العالمي, يتجرأ ويقول ذلك، فتعالوا نقولها معاً وننــفّــذها معاً ليبقى لبنانُ واحةَ المحبةِ المواطنيةِ وليصبحَ نظامُــه قِــبلةَ الشرقِ، شعوباً وثوراتٍ وأنظمةْ.
إن التعديلات التي طاولت النظامَ اللبناني حتى الآن لم تكن جُزءاً من تطويرِ النظام نحو الأفضل لإلحاقِه بـــــرَكْبِ الحداثةِ ولتعزيزِ سلطةِ الدولةِ وتوازنِ مؤسساتِها. أكثر من ذلك، لقد أتت هذه التعديلات في ظروف قاهرة وافتقرت إلى الاجماع الوطني. إن كل تعديلٍ دستوريٍّ لا يحقّق عملياً اللامركزيةً الموسعةَ ليس تطويراً للنظام. والكتائب تعمل من دون ملل ومنذ ستوات، لتحقيق اللامركزية,
مصيرُ لبنان رهنُ قدرةِ اللبنانيين على مواكبةِ تَـــغَــــيُّـــرٍ استراتيجيّ وتاريخيّ يَحدُث حالياً في منطقـــة الشرقِ الأوسط. فعلى الدولةِ اللبنانية أن تُحصِّنَ وِحدتَـــها الداخلية، وتُقيمَ شبكةَ أمانٍ سياسيٍ وديبلوماسيٍ وعسكري. وإذا كنا نرحب بأي تغيير يحفظ حق الشعوب بتقرير مصيرها، فسنتصدى، كما تعودنا، لأي تغيير يتناقضُ ومصلحة اللبنانيين.
في مثل هذه المراحلِ المصيرية لا بدّ لنا جميعاً، والكتائبُ في الطليعة، من أن نتوافقَ عبرَ مجموعةِ مبادراتٍ إنقاذيةٍ تتعدّى الانقسامَ القائم في البلاد. التموضعُ السياسيُّ الحالي لمختلَف القوى اللبنانية يَحتاج إلى نبضٍ جديدٍ وهندسةٍ جديدة وإعادةِ انتشار. لا جديدَ لدينا نقدّمُه من خلال متاريسنا الحالية لأن بعضَنا تحوَّل، بفعلِ التورطِ الخارجي والانحياز، جُزءاً من الأزمةِ، فيما يجب أن نكونَ كلـــنُا شركاء حلّ. إن الخروجَ من وراء المتاريسِ السياسية هو بحدِّ ذاتِه مبادرةٌ عظيمة. فهلــمّــوا نلتقي.
ما فَــــتِــــئْـــــنا في الكتائب نَعمل من أجلِ الوِحدة اللبنانية والحرية. هدفُنا إنقاذُ لبنان، سلوكُــنا التعالي عن الانقسام، وسيلـــتُـــنا الحوار، سلاحُنا الموقِف، ومشروعُنا الدولة. هذه هي المقاومةُ الضرورية اليوم.
في هذا الإطار، حين وجدنا الطائفيةَ وصلت أمامَ طريقٍ مسدود طرحنا العلمنة، وحين وجدنا الانحيازَ جلبَ الحروبَ طرحنا الحياد، وحين وجدنا المركزيةَ ضربت الانماءَ المتوازِن والأمنَ المناطقي طرحنا اللامركزية، وحين وجدنا التطرّفَ يتصاعد ويزداد طرحنا لبنانَ واحةَ حوارٍ بين الأديان والثقافات.
طريقُ الخروجِ من الأزمةِ الكبيرة العاصفةِ بالبلادِ يَمــرّ بإعلانِ نـيّــاتٍ يؤكّــد إرادةَ الحياةِ المشترَكة. طريقُ الخروجِ من الأزمةِ الكبيرةِ يستدعي: تأليفَ حكومةٍ قادرة، معالجةَ قضايا الناس، إجراءَ الانتخاباتِ الرئاسية في موعدِها الدستوري ووَفقاً للأصولِ الدستورية، إطلاقَ حوارٍ وطنيّ في إطارٍ جديد يُنهي وضعَ استراتيجيةٍ دفاعية ويتناولُ الاصلاحاتِ الضرورية، إنهاءَ كلِّ تورّطٍ عسكريّ وغير عسكري في حروب الآخرين، ومواكبةَ الأحداثِ الإقليميةِ والمفاوضاتِ الدولية لئلا يولدُ شرقٌ جديدٌ على حسابنا.
لذا، ينتظرُ لبنانَ رئيساً جديداً يَحمِلُ قضيةَ شعبِه التاريخيّة، يصون القرارَ الوطنيَّ الحر، يُدرك أبعادَ الصراعِ الإقليميِّ والعالميِّ، يُصالح الدولةَ مع الناس، يُــقدِّمُ خُطّـةَ إنقاذٍ للبلاد. إنَّ لبنانَ ينتظرُ رئيساً يَتميّـزُ، عَلاوةً على الأخلاقِ والنَزاهةِ، بشجاعةٍ اتخاذِ القرار المستقل، بصمودٍ تِجاه التحديّاتِ، وبثَباتٍ وطنيٍّ. فهذا زمن التحديات.
إحدى التحديات الكبرى، هي الشجاعةُ على الاعترافِ بأن حيادَ لبنان الإيجابي هو ضمانُ وِحدةِ لبنان ومعيارُ توازنِه وملازمٌ لنهائية الوطن.لقد أمْــعَــنّـــا بالانحيازَ طَوال ثلاثٍ وتسعين سنةً، فكانت النتيجةُ حروباً وأزماتٍ وانقساماتٍ واحتلالاً ووصايةً وهِجرة. فلنعتمد الحيادَ، لاسيما وأنه يَــعني دولةً قويةً، وانفتاحاً لا انعزالا، وتضامناً من دون تورّطٍ وتعاوناً من دون ذوبان.
وريثما يحصل ذلك، لا يستطيعُ الشعبُ اللبناني انتظارَ مصيرِ الثورات، فيما هو يَــفقِـــدُ ثرواتِه ولُقمةَ عيشه. إن لبنانَ يشهَد ظاهرةً خطيرةً هي سقوطُ اقتصادِ المجتمع وولادةُ اقتصاد الأفراد. لذا، إن الدولةَ مدعوةٌ فوراً إلى معالجةِ قضيةِ الأجور من خلال حوار بناء بين الدولة وأرباب العمل والنقابات، لئلا يعودَ الصراعُ الطبقيّ بين اللبنانيين، فهل تَـــنقُــصُنا صراعات؟ لا يُعقل أن تبقى أجورُ الموظفينَ والمعلِّمين والعمال على حالِها. لا يُمكن أن تبقى أوضاعُ الضمانِ الاجتماعيّ والصحيّ على حالها؟ لا يُمكن أن يَبقى اللبنانيون الذين لم يَجدوا عملاً بعد، من دون تغطيةٍ اجتماعية، أو الذين تقاعدوا من دون ضمان. فمشروعُ ضمانِ الشيخوخةِ يجب أن يُطَــــبَّـــق والمواطنُ على قيدِ الحياةِ وليس بعد الوفاة.
أيها الأصدقاء، أيها الرفاق والرفيقات
بعد سبعٍ وسبعين سنةً على تأسيسِ حزبِ الكتائب اللبنانية، يَجِد الكتائبيون أنفسَهم أمام إعادة تجديدِ المسيرة. تجديدُ المسيرةِ لا يستدعي بالضرورةِ تبديلَ منطلقاتِ الحزبِ وأهدافِه وثوابِته، بل الثباتَ عليها، خصوصاً وأن خياراتِ الحزب ومواقفِه أثبتت الأحداثُ صحَّــتَها على الصعيدين الداخلي والخارجي. وأساساً من يَعتمد مصلحةَ لبنان أولاً وآخِراً لا يُخطئ الموقف ولا يختلفُ مع الكتائب ويتمايزُ عنها. واستناداً إلى هذه الثوابت، ينطلق الحزبُ في تحديثِ بنيتِه وتعزيزِ انتشاره وتجديدِ كوادرهِ الشبابية. ينطلقُ الحزبُ في تحركٍّ وطنيّ يُــقوّي تواصلَه مع الناسِ والمرجِعيات، مع النخبِ والشباب، مع الطلابِ والأجيال، مع الهيئات الاقتصادية والنقابات. هذه بيئــتُــنا، هذا نِبعُ الكتائب منذ قلنا: "الشعبُ أولاً" و"لبنانُ أولاً" والكرامةُ أولاً". قلناها حين رفضنا مشروعَ التوطين والوطن البديل. قلناها حين قاومنا الاحتلال السوري. قلناها حين رفضنا الاجتياح السوري في 13 تشرين الأول سنة 1990. قلناها حين قاطعنا الانتخابات الزائفة سنة 1992، قلناها حين رفضنا وجود سلاحين في دولة واحدة، قلناها حين انطلقنا في ثورة الأرز مع حلفائنا، قلناها حين قُـدنا الانتفاضةَ الطلابية. وقلناها أصلاً حين رفضنا كل تسوية دستورية مصيرية بذريعة وقف إطلاق نار مرحلي.
يَنطلق الحزبُ في تموضعٍ وطنيّ ودولي من وحيِ التغييراتِ اللبنانية والمشرقيةِ والعربية حِرصاً على وجود لبنان ووحدةِ اللبنانيين. فمنذ بدء الحَراك العربيّ التزمَ الحزبُ قضيةَ حريةِ الانسانِ العربي وكرامتِه. التزم حقَّ الشعوبِ بتقريرِ مصيرها. التقينا قادةَ العالم. نبهنا إلى مخاطرِ القمعِ والتطرف والإرهاب. حَضَرنا مؤتمراتٍ عربيةً وإقليميةً ودولية، ونَــظَّمنا في لبنانَ مؤتمراً أطلقتُ بخلاله "الشِرعةَ ـ الإطار" للثوراتِ العربية والأنظمة البديلة. إن حزبَ الكتائب اللبنانية بقدرِ ما هو مؤمنٌ بالحيادِ الإيجابي الناشط، هو معني بنهضةِ الشعوب العربيةِ ومشاركٌ فعّــالٌ بورشة الحوار بين الحضارات والثقافات ولاسيما بين الإسلام والمسيحية. هذه هي القيمةُ المضافةُ التي يؤدّيها المسيحيون واللبنانيون عموماً في هذا الشرق.
ما يُشجّعنا على القيامِ بهذا الدور هو محبةُ الناس وثقةُ المسؤولين العرب والدوليين بحزبِ الكتائب الذي اختبروا أهمّــيــتَــه طَوال سبعِ وسبعين سنة. كلُّ يوم من تاريخِ لبنان الحديثِ ينــبُــض بدورِ الكتائب وتفانيها في خِدمة لبنانَ والانسان. كل يومٍ استقلالي يَشهد على نضالِ الكتائبِ وتضحياتِ بُــــناتها ورموزها وشهدائها.كلُّ يومٍ تُشرق فيه شمسُ الحريةِ يتذكر اللبنانيون بيار الجميل المؤسِّس، فلولا خياراتُ هذا الرجل ومواقفُه وصمودُه لــتغـيَّـرَ وجهُ لبنان منذ الأربعينات إبــَّانَ معركةِ الاستقلال، ولــتغـيَّـرَ الوجودُ اللبنانيّ الممــيَّز منذ الخمسينات وما بعدَها حين بَرزت الأطماعُ التوسعيةُ المختلٍفةُ بلبنان.
لذلك أجدّد إيماني بلبنان، وهذه المرة لا أريد أن ينقل الإيمانُ القويّ الجبال، بل أن يُـــثَــــبٍّـــتَ إيمانُنا القويّ جبالَ لبنان وكلَّ لبنان.