خطاب الرئيس أمين الجميل في نقابة المحامين
11 تشرين الثاني 2015
منذ زمنٍ أتحيَّنُ هذه المناسَبة. فاللقاء مع المحامين، والمتدرّجينَ منهم، يُــعيدني إلى ماضٍ عابقٍ بالحنين البهيّ والذكرياتِ الجميلة، إلى زَمالةِ الروب وعِشرةِ قصرِ العدل وأُلفةِ النِــــقابة. هنا نشأتُ محامياً أؤمن بالحقِّ والعدالة،
فكانت قيمُ النِقابة امتداداً لتلك التي تربيّت عليها في عائلتي وبيئتي الوطنية.
لذا، أيُّ مجتمعٍ أَوْلى من مجتمعِ المحامين لأتحدّثَ أمامَه عن الوطنِ والحق والقانون والدستور؟ إنَّ ندواتِ التدرّج التي تنطلق اليومَ، هي التربةُ الصالحةُ التي تَــنـــبُت فيها كلماتُ المنطِقِ والدستور في زمنِ العيش خارجَ قواعدِ المنطق وأحكامِ الدستور. فيا أيّـــها المتدرّجون الجدد، كونوا مستقبلَ الحقِ في لبنان، كونوا النجمَ الساطعَ، لتكسِبوا شرفَ الانتماءِ إلى هذه النِــقابةِ العريقة والمميَّــــزة.
عبرَ تاريخِها، ظلّت نِقابةُ المحامين في بيروت، بل في لبنان، جَبهةَ الدفاعِ عن الحريّـــات وكرامةِ الانسان، ومَعقِلَ الحقِ والقانون. فـمَن الأجدرُ منكم، أيها الزملاءُ الأعزاء، بإطلاقِ حِراكٍ وطني لتطبيقِ الدستورِ وإنقاذِ مؤسساتِ الدولةِ ونُــصرةِ القانون؟ مَن أجدرُ منكم بإطلاقِ حملةٍ ضِدَّ الفسادِ والزبائنية؟ فهذه النِقابةُ التي خَــــرّجت كبارَ رجالاتِ لبنان في الإدارة والسياسة والحكم، مدعوةٌ اليومَ أن تُــــقدِّمَ للبنانَ طاقَماً سياسياً جديداً لقيادةِ مؤسساتِ الدولةِ في وقت تَــترنَّح الطبقةُ السياسية الحاليةُ أمام الأزَماتِ المتنوِّعة.
أيها الحضور الكريم،
من البدايةِ إلى النهاية، ما تَعرّض لبنانُ لخطرٍ إلا حين كانت مجموعةٌ من مكــــوِّناتِـــه تَــخرجُ على الدستورِ والقانون. وما تحوّلت أزماتُـــنا السياسيةُ والاقتصادية والقومية والطائفية حروباً إلا حين أبَـــيْـــنا حلَّها انطلاقاً من منطقِ الدستورِ وبنوده، وذهبنا بعيداً نراهنُ شرقاً وغرباً، ونحلُم بانتصاراتٍ عبثيةٍ ووهمية.
أفهم أن تَحتكمَ شعوبٌ أخرى في هذا الشرقِ إلى العنفِ لتحقّقَ مطالــبَــها، فدساتيرُ هذا الشرقِ "بلاغاتٌ رقمُ واحد"، لكنَّ الشعبَ اللبنانيَ حَظِيَ بدستورٍ هو الأعرقُ في العالمِ العربي: وُضِعَ سنةَ 1926، والأفضلُ: يَــفصُل بين السلطات، والأمتنُ: لديه مناعةٌ ضِدَّ الانقلابات، والأجودُ: يَضمَن الحرياتِ الفرديةَ والجماعية، والأجرأُ: يَـنحو نحو اللامركزيةِ والمدنية، والأسمى: يَستلهِم الشرائعَ والقيمَ والدساتيرَ العالميةَ الديمقراطية، والأصلحُ: يُــفسِحُ المجالَ أمام إدخالِ تعديلاتٍ عليه، وقد عدّلنا دستورَنا مرتين: سنةَ 1943 في الاستقلال، وسنةَ 1989 في الطائف. وفي المرتين حصلَ التعديلُ وَفـــــقَ الأصول الدستورية.
ليس الدستورُ نصاً أدبياً نَـــأنَس به أوقاتَ الفراغ، بل هو راعي وناظمُ الحياةِ الانسانيةِ والوطنية والدولية في كل لحظة. الدستورُ هو ما يبقي في الدولةِ ومنها بعدَ أن يزولَ كلُّ شيء. إذا سقطت دولةٌ وبقيَ دستورُها يُــــعاد بناؤها على أساسِه، فكم دولةٍ اجتيحَت واحتُـــلَّت فحافظت على شرعـــيَّــتِها لأنها صانت دستورَها؛ وكم دولةٍ اضمحلَّت من دونِ احتلالٍ لأنها أسقطت دستورَها ففقدَت شرعيتَها ووِحدتَـــها.
وُضِعت الدساتيرُ لنقلِ الانسانِ من نظامِ الطبيعةِ إلى نظامِ الدولة، والجماعةِ من واقعِ الحروبِ إلى واحةِ السلام. لذا إن الاعترافَ بالآخَر، وهو فعلٌ سلميٌّ، يَـمرُّ حتماً بالدستور، فيما عدمُ الاعتراف بالدستور، وهو فعلٌ عِدائي، يُــــلغي حُسنَ العلاقةِ بالآخر. إن الولاءَ للدستورِ هو الولاءُ الوطني. وخلافاً لما كان سائداً، ليست الوطنيةُ محبةَ الوطنِ بالمطلق، بل احترامُ الدولةِ والتقــيّــدُ بقوانينها. وبالتالي، إن كلَّ تضحيةٍ خارجَ الدستورِ والدولة هي تضحيةٌ عبثيةٌ، وكلَّ مشروعٍ سياسيٍّ خارجَ الدستورِ والدولةِ هو مشروعٌ مشبوه.
واللافتُ، أن كلَّ مكــوِّنٍ لبناني انحاز إلى الخارجِ واستجارَ به لتغييرِ الواقعِ الداخلي عسكرياً لمصلحته، انتهى به الأمرُ بالعودةِ إلى الحوارِ والاحتكامِ إلى الدستورِ والقوانينِ لإحداث التغيير الوفاقي. هكذا حصلَ بعدَ أحداثِ سنةِ 1958، هكذا حصل بعدَ حربِ السنتين، وهكذا حصل بعدَ المعاركِ الانتحارية بين سنتي 1988 و 1990 ما أدّى إلى اتفاقِ الطائف، وهكذا سيحدثُ قريباً.
أمامَ هذه الوقائع، لماذا لا نَــعتبِـــر من التاريخِ القديمِ والحديث؟ لماذا ننتظرُ سقوطَ الضحايا وخَرابَ البلد قبلَ الاتفاق؟ لا نَـــنْــــتَـــظِرنَّ فرجاً من حلِّ الحربِ السورية، أو من الاتفاقِ النووي، أو من التقاربِ الإيراني الخليجي، بل من منطقِ الدستورِ وبنودهِ وروحِه، من تقاليدِنا اللبنانية وأعرافِنا والتراث، فنبني دولةَ القانونِ والحقِ والمساواة.
هناك دولٌ لديها دساتيرُ مكتوبةٌ وأخرى لديها أعرافٌ شفوية. أما نحن فلدينا الاثنان، لكننا لا نحترم لا هذا ولا ذاك. نُـحْسَدُ على ما لا نُـــقِـدِّر، ونَشتهي ما لا يُــحْسَدُ الآخرون عليه.
لماذا نُـــعلّــقُ مصيرَنا ومصيرَ الأجيال الآتيةِ بصراعاتِ المنطقةِ والعالم، وهي صراعاتٌ لامتناهية، خصوصاً وأن كلَّ اللبنانيين متفقون على ضرورةِ تطويرِ النظامِ وابتداعِ هيكليةٍ وطنيةٍ مناطقيةٍ ولامركزيةٍ تحترم وِحدةَ الدولة من جهةٍ، والخصوصياتِ الثقافيةَ ونمطَ الحياة من جهةٍ أخرى. لكن يُـــفترضُ بهذا التغييرِ أن يَحدُثَ من خلالِ الآليةِ الدستورية، وليس بالقوةِ وبالتعطيلِ وبدفعِ الدولةِ نحو الانهيار وكأن هناك من يَــنتظر سقوطَها ليبنيَ مكانَـها دولةً أخرى لا تُشبِه اللبنانيين ولا تعدّديَــتَهم الحضارية، ولا انتماءَهم العربي، ولا نمطَ حياتِهم النموذجي.
إن الدستورَ اللبناني يَـــلحَـظ تطبيقَـه وتعديلَه، لكنه يُـــحَــظِّر تعطيلَه وتعليقَه. وبالتالي، كلُّ ما هو خارجَ التطبيقِ والتعديل هو حالةٌ انقلابية. ومَــن يَــفتعلُ هذه الحالةَ يَستهدف تغييرَ لبنان لا تعديلَ الدستورِ لإصلاحِ الدولة. وهذا بالضبط ما نعانيه اليوم. لا يجوزُ أن نستغلَّ بنودَ الدستور في اللُعبةِ السياسية، بل يجب أن نستفيدَ من بنودِ الدستور لحلِّ الاشكالاتِ التي تَفرِزها الصراعاتُ السياسية. غير أن هناك من يَــخترع إشكالاتٍ سياسيةً بُــغيةَ إظهارِ الدستورِ اللبناني عاجزاً عن حلِّــها لــــيُـبرِّرَ لاحقاً انتهاكَ الدستور ونسفَ مقوماتِ الدولة اللبنانية. حـبّذا لو يَعرِف هؤلاء البديلَ من الدولة اللبنانية ودستورِها وميثاقِها وصيغتِها، وحــبّــذا لو يَــملِكون الضماناتِ بأن ما يريدونه أفضلُ مما هو موجود. إنها المِلاحةُ السياسيةُ في المجهول. إنها المغامرة بالبلد والذات!
نحن نعيش انقلاباً دستورياً موصوفاً تحوَّل انقلاباً على المؤسسات والنظام. والانقلاب على الدستور لا يَــقِلّ خطراً من الاعتداءِ على السيادةِ والاستقلال والأرض، لأن الدستورَ يصون هذه القيمَ لا هي تصونُـــه.
إننا نشهدُ انتهاكاً للدستورِ وتجاهلاً للقانون عبرَ نقلِ الخلافاتِ إلى الشارعِ أو عبرَ طرحِ تسوياتٍ لها من خارجِ نصِّ الدستورِ وروحِه، في حين أنَّ الدستورَ قادرٌ على إعطاءِ جوابٍ لكل قضيةٍ في حال ِكان الهدفُ إصلاحياً. الدستور يَـــتقـــبَّـــل الاجتهادَ لكنه يأبى البِدَع. وما أكثرَ البدعِ هذه الأيامْ. وكم مِن هرطقاتٍ دستوريةٍ تُرتكَبُ باسمِ تسوياتِ سياسية.
من خارجِ الدستورِ والقوانين تُــطرَح تسويةٌ لسدِّ الشغورِ الرئاسي، وتسويةٌ للتعييناتِ العسكرية والأمنية، وتسويةٌ لآليةِ عملِ مجلسِ الوزراء، وتسويةٌ لتأخيرِ التسريحِ في الجيش، وتسويةٌ للتشريعِ في المجلس النيابي، وتسويةٌ للسلاحِ غيرِ الشرعي، وتسويةٌ للأحكامِ القضائية، وتسويةٌ للسجناءِ الإرهابيين، وتسويةٌ للرواتبِ والأجور، وحتى تسويةٌ للنفايات، وكَم هي متنوِّعة. والأنكدُ، أنَّ من يَرفض هذه التسوياتِ العشوائيةَ المناقضةَ للدستورِ والقوانين يُــــــتَّـــهم بالعرقلة، ومن يُروِّجُ لها ويَـــقَــبَـــلُها يُوسَمُ بالوفاقي؛ وكأن الدستورَ أصبح عائقاً أمام الحلول، فيما هو الحل. وأساساً ما كانت هذه التسوياتُ والمساوماتُ والمحاصصاتُ لـــتُـــطرحَ لو احتُـــــرم الدستورُ وانتخب رئيسٌ للجمهورية.
انتخابُ رئيسِ الجمهورية هو استحقاقٌ دستوريٌّ ذو طابَعٍ وطنيٍّ، وليس استحقاقاً سياسياً يُــحـتِّـم حصولَ تسويةٍ دستورية لكي يَــتمّ. وبالتالي، نرفض أن نُـــعيدَ النظرَ بالحالةِ اللبنانيةِ كلّما حان موعِدُ انتخاب رئيس جمهوريةٍ جديد. وإذا كان من نيةٍ لإعادةِ النظر بالدستورِ أو بالنظام، فبعدَ انتخابِ رئيسٍ وليس قبلَه. الرئاسةُ خطٌّ أحمر، وهي بالنسبةِ لنا بمستوى وِحدةِ الكيان. فكما ربطَ الدستورُ في مقدِّمتِـــه بين التقسيمِ والتوطين، نربطُ أيضاً بين الرئاسةِ ووِحدةِ لبنان. لقد ناضلنا وقاومنا وكافحنا طَوالَ 1400 سنةٍ لــنَشهدَ ولادةَ الدولةِ اللبنانية، ولنرى أولَ تعدديةٍ دستوريةٍ وميثاقيةٍ ومدنيةٍ في هذا الشرق. وإذا كان لبنانُ رسالةً فرئيسُه يجب أن يكونَ رسولاً.
ما يجري على الصعيدِ السياسي يَجري مثلُه على الصعيدِ الاداري والرَقابي والمالي. فالدولةُ تُــجري مناقصاتٍ خارجَ لَجنةِ المناقصات العامّــة لتمريرِ صفقاتٍ بمنأى عن الشفافية. والدولةُ تَــصرِفُ الأموالَ من دون موازنةٍ تُــوقِف الانهيارَ الماليَّ المتواصل. والدولةُ تُــخفِّض القدراتِ البشريةَ والتقنيةَ لأجهزةِ الرَقابة من مجلسِ خِدمةٍ مدنية، وتفتيشٍ مركزي، وديوانِ محاسبة، والهيئةِ العليا للتأديب، ذلك ليستمرَّ الفسادُ بعيداً عن الرَقابة وللحؤولِ دونَ نهجِ النزاهةِ واعتمادِ معيارِ الكفاءةِ ومبدأِ الانتاجية. والدولةُ تَـــخلُق أيضاً إداراتٍ رديفةً للإدارةِ الرسمية وجيوشَ مستشارين بموازاةِ كبار الموظفين لحمايةِ المحاصصةِ والزبائنية. والدولةُ تَنشرُ ثقافةَ المصالحاتِ الطائفيةِ والعشائرية للهروبِ من عدالة القضاء .
لا يستطيع لبنان أن يستمرَّ على هذا المِنوال. لا تستطيع دولةُ لبنان أن تحيا وفيها أكثرُ من دستور، وأكثرُ من إدارة، وأكثرُ من جيشٍ وأكثرُ من شعب. ولا تستطيع دولةُ لبنان أن تحيا وفيها أقلُ من حدودٍ، وأقلُ من سيادة، وأقلُ من ولاء، وأقلُ من أخلاقٍ وطنية. هذه مــوادُّ سقوطِ الأمم والمجتمعات.
وأبرزُ تجلياتِ الانقلاب الحاصل هي: رهنُ لبنانَ للخارج، ربطُ الدستورِ بالسياسة، تحويلُ الانتخاب إلى تعيين. والشعب معلّق بحبال الهواء.
إن هناك قراراً اتخذه أطرافٌ لبنانيون وإقليميون، متعددو الاصطفافات، بتعليقِ النظام، بل كل الجمهوريةِ اللبنانية إلى حينِ وضوحِ أسسِ الحلِ النهائي في سوريا وسائرِ دولِ الشرق الأوسط الملتهِبةِ والمجهولةِ المصير. لن يَـــفرجَ هؤلاءُ الأطراف عن الاستحقاقِ الرئاسي قبل معرفةِ حِصَّـــتِــهم ودورِهم في التسويةِ الإقليمية، وهي، على ما يبدو، تسويةٌ معقَّدةٌ وطويلة، وهي أقربُ إلى مشكلةٍ إضافيةٍ منها إلى حلٍّ حقيقي. وما يزيدُ الاستهجان، أنْ يُــصِرَّ هؤلاء الأطراف على أن يَسبِقَ الانتخاباتِ تفاهمٌ لا على اسمِ الرئيسِ العتيد فحسب، بل على سياستِه وملبَسهِ ومأكلِه ومَشرَبه. بمعنى آخر إنهم يَـــنزَعون عن الاستحقاقِ الرئاسي صفتَــه الدستورية، ويُــحوّلون الانتخاباتِ الديمقراطيةَ تعييناً، ويَربُــطون التعيينَ باسمٍ محدَّد، وبالخضوعِ لشروطهم. فعدا أن هذا الأمرَ هو انتهاكٌ للديمقراطيةِ حتى بمفهومها التوافقي، فإنه يفوقُ مساحةَ صلاحياتِ رئيس الجمهورية، حيث أن سلطةَ القرارِ السياسي باتت مجلسَ الوزراء وليس رئيسَ البلاد.
إن الخروجَ من هذه الفوضى القاتلة، يكون بالعودةِ إلى ينبوعِ الخلاص الوطني الذي هو الدستور، حتى للقوى التي لديها ملاحظاتٌ على الدستورِ وترغَب بتعديله. هذه هي تقاليدُنا، وهذه هي ثقافــتُــنا منذ خمسٍ وتسعين سنة، ولم نخرج عنها لا في زمنِ الانتداب، ولا في زمن الوصاية، ولا في زمن الاحتلال.
لقد أظهر تاريخُ لبنانَ القديمُ والحديث أن القـــوّةَ تستطيع تدميرَ لبنان لكنها عاجزةٌ، مهما تجــبّرت، عن بنائه. وأظهر تاريخ لبنانُ القديمُ والحديث أن القـــوّةَ تَـــتحوّل نُــقطةَ ضعفٍ لدى المستقوي بها حين يَعتمدها معياراً للتعاطي مع الآخر. لا يتحمّل لبنانُ منطقَ السيطرةِ بل منطقَ المصالحة، ولا منطقَ التحدي، بل منطقَ الوفاق. المصالحةُ تعني المشاركةَ والعدالةَ والمساواة.
في ظلِّ هذا الوضعِ القاتم في البلاد، تَعالَـــوا نِجدْ حلاً لمشاكلِنا وطموحاتِنا وأحلامِنا عبرَ نظامناِ الديمقراطي، وباستلهامِ القيمِ والأولوياتِ الوطنية والمساراتِ الدستورية. تعالَــــوا نوفِّــر على بلادِنا الانزلاقَ في فوضى الشرقِ الأوسط، وفي ربيعاتٍ عربيةٍ تَــحــوَّلت عواصفَ هوجاء، فأضافت على الاستبدادِ إرهاباً.
إن العالمَ اليومَ يتّـــجه نحو حلِّ قضاياه وتحديثِ مفهومِ الحكم من دونِ تعديلِ الأنظمة، وذلك من خلال الحوكمةِ الرشيدة التي هي عملياً: كيفيةُ إدارةِ الحكم والنظامِ والمجتمعِ بحيثُ تصبح كلُّ الأفعالِ والمبادراتِ في الشأنِ العام خطواتٍ تُــعزّز الاستقرارَ والسلام.
الحوكمةُ الصالحة هي فنُّ استباقِ الازَمات ومعالجةِ المشاكل وطرحِ الحلولِ الوقائية حيناً والجذريةِ حيناً آخر. الحوكمةُ الصالحة هي حضارةُ الاعترافِ بالآخر في زمنِ العولمة. والآخرُ هذا ليس بالضرورةِ مَن نراه ويُشبِــهنا، بل من نعيشُ معه في الوطنِ والعالم ويُشبه نفسَه أولاً. الحوكمةُ الصالحة هي القدرةُ على استخراجِ كلِّ طاقاتِ بُنى النظام، فينشأُ تنسيق ذكيّ بين المركزيّ واللامركزي، بين العامِّ والخاص، بين السياسيِّ والأمني، بين الاجتماعي والاقتصادي، وبين الجماعةِ المنتخَبة والمجتمعِ المدني. هكذا تتفاعل كلُّ مكـــوّنات الحكمِ والسلطةِ والدولةِ والشعب عبر قيمِ الأخلاقِ والمسؤوليةِ والحريةِ، فيزول القهرُ والغبنُ والتفردُ والاستقواء. إذا كانت الحوكمةُ في الدولِ المتقدِّمة وفَّرت أزماتٍ وحروباً وثورات اجتماعية، فلما لا نعتمِدُها في لبنانَ لتطعيمِ إدارةِ الحكم والخروجِ من مشاكلِنا عِوضَ الاحتكامِ إلى العنف وتعطيلِ الحياة الدستورية؟
الاحتكام إلى الحوكمةِ الصالحة أو العنف تمرّ به اليوم دولتان عربيتان جارتان: تونس وليبيا: تونس التي خَرجت من ربيعِــها الدمويِّ إلى الديمقراطيةِ من خلال الانتخاباتِ الحرةِ والحوارِ الاجتماعي والمصالحةِ الوطنية، اعتمدت مفهومَ الحوكمةِ فنال صانعوُ سلامِها جائزةَ نوبل للسلام. وليبيا التي لا تزال تتخــبّــط بحربِــها ويَنتشر الارهابُ في إرجائِها وتُــصدّره، أيَّ نَموذجٍ نختار وقد كنا النموذجَ والخِيار؟ وأيَّ نوبل نختار؟ نوبل بناءِ الدولة أم نوبل إسقاطِها؟ لم يَــفتْ بعدُ الأوان لننقذَ لبنان.
أعتقد أن مجموعَ هذه الأفكار يُمكن أن تشكِّل نهجاً واقعياً ودستورياً وفانونياً ووطنياً لإنقاذِ لبنان. الحلولُ موجودةٌ من خلالِ الدولةِ والدستورِ والمؤسسات. الحلولُ موجودةٌ من خلالِ الحوكمةِ الرشيدةِ والحوارِ الصادقِ والإصلاح التقدّمي. الحلولُ موجودةٌ من خلال الولاءِ الحقيقي والمنطقِ الميثاقيِ. الحلولُ موجودةٌ من خلال الأمنِ الشرعي والاستقرار الاجتماعي والحياد الإيجابي. الحلولُ موجودة تنطلق من انتخابِ رئيسٍ للجمهورية. الحلول موجودة ما دامت نِقابةُ المحامين هنا، وتُخـــرِّج كلَّ سنةٍ متدرّجين يَحمِلون لبنانَ بعينٍ والعدالةَ بعينٍ أخرى.
*******